صرخة الفزع التي أطلقها وزير التكوين والتشغيل بشأن العجز الحاصل في اليد العاملة في مختلف القطاعات المهنية اليدوية بما في ذلك قطاع الفلاحة والذي قدره الوزير بمائة ألف، أشبه بناقوس للخطر بشأن بعض من مظاهر اجتماعية وعقليات سلبية كثيرة باتت سائدة بيننا وهي مظاهر باتت تحتاج إلى انقلاب فكري حقيقي لاجتثاث الكثير من المفاهيم المرضية التي يتعين التخلص منها قبل استفحالها.. قد لا نكشف جديدا اذا اعتبرنا أنه لا تكاد عائلة تونسية تخلو من حالة بطالة أو أكثر بين أفرادها ولا سيما أصحاب الشهادات الجامعية. وقد لا يكون من المبالغة في الاعتراف بأن أزمة البطالة في تونس استفحلت بعد أن قفزت في غضون الأشهر التي تلت ثورة 14 جانفي من مائتي ألف عاطل الى نحو 800 ألف. على أن الغريب أنه مقابل استفحال ظاهرة البطالة في البلاد فإن ثقافة العزوف والترفع عن العمل في عديد القطاعات خاصة اليدوية منها باتت رائجة بشكل مثير للمخاوف لأن في هذا العزوف عن العمل ما لا يساعد على تقدم عجلة الاقتصاد أو إعادة دفعها عندما يتعلق الأمر ببعض المشاريع الاقتصادية لا سيما ونحن على أبواب موسم فلاحي. على أنه لا يمكن أن نسقط من حساباتنا أن هذا العزوف والذي قد يمهد لاستقدام يد عاملة أجنبية -وهذا سيكون أخطر على المجتمع وعلى الاقتصاد- يمكن أن يكون أيضا سببا من أسباب انتشار الجريمة.. قد يبدو خلف هذه الظاهرة مسألة نفسية واجتماعية بيد أنه لا يمكن أن ننكر ان لها جانبا سياسيا ليس بوسعنا غض الطرف عنه. فالترفع عن العمل في جانب منه أيضا نتيجة حتمية لعوامل مختلفة ثقافية ونفسية واجتماعية ساعد في انتشارها الاحباط واليأس ومشاعر النقمة لدى شريحة واسعة من التونسيين الذين أصيبوا بصدمة وهم يكتشفون لأول مرة حجم الفساد الذي استشرى في البلاد وغياب سلطة القانون الذي منح أقلية من أصحاب السلطة المتنفذين -وبفضل ممارسات المافيا- من الهيمنة على ثروات البلاد واستنزاف جهود المستضعفين الذين جرفهم الفقر وأعياهم البؤس. أما السبب التالي، والأمر لا يتعلق بالبحث عن مبررات لثقافة العزوف عن العمل اليدوي بشكل خاص، فهو يتعلق بجمود العدالة وغياب المساءلة والمحاسبة بما زاد مشاعر النقمة في النفوس وهم يرون الغني يزداد غنى والفقير يزداد فقرا، وقد كانوا يحلمون بأن يكون أول ثمار الثورة تجاوز، بل واستئصال، منطق الأسياد والعبيد المترسخ في عقول الكثيرين. إلى جانب ذلك يأتي ملف التعويضات لآلاف المساجين المحررين وما أثاره من جدل في مختلف الأوساط بالنظر إلى استحقاقات المرحلة وقائمة الأولويات المطروحة في خضم تجربة الانتقال الديمقراطي. كل ذلك الى جانب ما أشيع عن تعويضات إضافية بين النهضة وبين السلفيين في إطار أحداث السفارة الأمريكية، ما يمكن أن يزيد الأمر تعقيدا. تراجع ثقافة العمل وترسخ عقلية التواكل ليسا بالأمر الهين في بلد يتطلع الى تحقيق أهداف الثورة. في المقابل فإن السلطات الرسمية لا تبدو حتى الآن مهتمة بمواجهة عقلية التواكل الهدامة للمجتمعات أو معنية بالتخلص من ذلك الخطاب الخشبي والمناظرات العقيمة واستعراض لغة العضلات التي لا يمكن إلا أن تزيد الاحتقان في مواجهة تساؤلات عالقة لشباب صنع الثورة ولا يزال يحلم بنصيبه من الكرامة والعدالة الاجتماعية.. من المؤسف فعلا أن تتراجع ثقافة العمل والاجتهاد في بلد ليس له من حل غير سواعد وعقول أبنائه لتجاوز أزماته الراهنة.. قد لا يكون من المبالغة في شيء القول بأن مواصفات المواطن الصالح باتت محددة اليوم في طول اللحى أو طول الجلابيب الافغانية المستوردة فيما تتحول المساجد لتجييش المشاعر ولإثارة الفتن والتنافر إلى درجة التناحر. لقد تناسى الكثيرون أن الدين العمل، وتناسوا مبادئ الاسلام التي تحث على الاجتهاد وتعتبر أن اليد العليا خير من اليد السفلى وغلبوا كل القيم التي تحث على التواكل والجمود والتعويل على المساعدات التي مآلها الزوال...