في شبه غياب دور رئاسي تونسي تبدو أبرز الأطراف باحثة عن حل «في» الخارج أو «من» الخارج نور الدين عاشور تونس الصباح الأسبوعي: سأستسمح التاريخ لأقتبس منه عبارتين شهيرتين هما: "رجل أوروبا المريض"، وهو ما كانت تعرف به الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر بعد أن أصابها الانقسام والتفتت بفعل انشغال الحكام عن أوضاع الدولة، وتزايد الأطماع الخارجية للاستيلاء على جانب كبير من أراضيها؛ و"الأخ الأكبر" الذي كان يعرف به الاتحاد السوفياتي في علاقة بدول أوروبا الشرقية الواقعة داخل أسواره الحديدية. في سياق حاليّ، الرجل المريض في المغرب العربي هو تونس، أما الأخ الأكبر فهو الجزائر طبعا، مع استبعاد كل ما علق بالعبارتين من أفكار مسبقة وإيحاءات سلبية، ومحاولة التعامل معهما من زاوية مجرّدة وبكل تجرّد. بالتأكيد لسنا في حاجة إلى تقديم أدلة وبراهين على أن تونس هي بحق الرجل المريض في المنطقة المغاربية، والفرق بينها وبين ليبيا هو أن الليبيين يداوون أنفسهم "بالتي كانت هي الداء"، أي بالحديد والنار كما كان الأمر في عهد القذافي، بينما آثرنا في تونس القطع مع الاستبداد وخوض التجربة الديمقراطية، إلا أنه يبدو أن الجرعة كانت أكبر مما نحتاجه في مرحلة معينة من العلاج، فيما كانت الأطماع الحزبية أعظم مما كنا نتوقعه، لنصل إلى أزمة كبرى استقطبت الداخل حكومة وأحزابا حاكمة ومعارضة ومجتمعا مدنيا، والخارج من تدخلات سافرة لسفراء أجانب في الشأن الداخلي، ومن اجتماعات ولقاءات تعقد في تونس، إلى لقاءات في باريس وأخيرا وصل قطار المشاورات إلى محطة الجزائر.. من مهلة إلى أخرى في سلسلة المشاورات للخروج من الأزمة، هكذا يبدو عنوان المرحلة الحالية من الحوار الوطني، التي توحي بأن عديد النوافذ تغلق في الداخل وتفتح أخرى على الخارج، ولأن قطار الحوار تجاوز الحدود معنويا وماديا- وصلنا إلى دور جزائري، وتحديدا من الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في سعي "لمساعدة الدولة الشقيقة تونس على إيجاد مخرج للأزمة السياسية التي تتخبط فيها منذ مدة"؛ كما ذكرت صحيفة جزائرية. وفي شبه غياب دور رئاسي تونسي، تبدو أبرز الأطراف ممثلة في راشد الغنوشي والباجي قائد السبسي باحثة عن حل "في" الخارج أو "من" الخارج وفي هذه الحالة يستوي الأمران، بما يعني في الآن نفسه محاولة لإفشال الحوار الوطني إن لم يكن دليلا على الفشل بعينه. لم يكن أحد يتصوّر أن نبحث عن الحل في الخارج، حتى وإن كان الأمر يتعلق بالشقيقة الجزائر التي لا يخفى ثقلها الإقليمي، ولكن هذه الأخيرة وعندما كانت تواجه "سنوات الجمر" الثانية طيلة التسعينات، لم يأت قادتها وزعماء أحزابها إلى تونس بحثا عن مخرج لأزمة داخلية جزائرية، وليس من طبع الجزائريين ترك الأجانب الإمساك بأوراق داخلية أو التفريط فيها، إذن هذا ما لم نتعلمه في تونس، حيث تلعب السفارات الأجنبية أدوارا متجاوزة للعرف الديبلوماسي، وهو ما يذكِّر بوضع الإيالة التونسية قبل الاحتلال الفرنسي حيث كان قناصل إيطاليا وفرنسا وبريطانيا يصولون ويجولون في الشؤون الداخلية للبلاد، بينما كانت ثروات البلاد مهرّبة. تلك كانت جانبا من صورة تونس الرجل المريض في القرن التاسع عشر، حيث سارعت فرنسا إلى اقتناص الفرصة وتذرّعت بهجومات قبائل تونسية على الحدود الغربية مع الجزائر لتتدخل عسكريا، وتفرض على محمد الصادق باي معاهدة باردو ل"الحماية"، أي حماية نظام البايات. أما اليوم فلا نجد فروقات كبيرة بخصوص وضع الرجل المريض، فمن سفارة أمريكا إلى سفارة فرنسا لا نجد إلا التدخل السافر في الشأن التونسي، بما يترجم أولا عجز نخبتنا السياسية على الاتفاق حول مستقبل البلاد، وثانيا بما يكشف أن الوضع في بتونس أصبح في جانب منه محور أوراق تمسك بها أطراف خارجية، في سياق ذيول ما يعرف بالربيع العربي إقليميا ودوليا. فالموقف الجزائري واضح من الربيع العربي ونتائجه، وكأننا بصدد القول للجزائريين: "لقد غرقنا في مستنقع الربيع العربي، تعالوا أنقذونا وأصلحوا بين زعمائنا وألِّفوا بين قلوبهم"، وهنا لا بدّ من التأكيد أن الجزائر يعنيها أساسا وجود دولة (نعم وجودها بكل ما تعنيه الكلمة من معنى) مستقرة على حدودها الشرقية، وبالطبع لا يشكل نظام الحكم فيها ولا طبقتها الحاكمة أيّ تناقض مع النظام الجزائري. وعلى افتراض أن "الأخ الأكبر" يعنيه استقرار تونس سياسيا وأمنيا، فإن تدويل الأزمة التونسية أو محاولة تدويلها يمثل في حدّ ذاته جملة من النقاط يمكن حوصلتها فيما يلي: استقبال بوتفليقة للغنوشي ثم لقائد السبسي في سياق مشاورات الحوار الوطني، فيه إساءة للمنظمات الراعية، ويشكل تمييعا للحوار وكسب الوقت، بل نجد هذا الموقف واضحا في تصريح عامر العريض لصحيفة "المغرب" قائلا: "إن الاستقالة (الحكومة) الوحيدة الممكنة هي بعد الانتهاء من المصادقة على الدستور ومن أجل توفير ضمانات إضافية مساعدة لإنجاح الانتخابات". شدّ انتباه الرأي العام بلقاءات مثيرة بنسق تصاعدي في باريس أو في الجزائر. محاولة الإيحاء بفك الارتباط بين مصير تونس والمخططات الجاهزة في عواصم خليجية معينة، بما أن التعاون مع الجزائر لحل الأزمة يمثل حلا مغاربيا. لا أحد يعرف ما إذا كانت المبادرة الجزائرية فردية أو تحمل بين طياتها دورا فرنسيا وأمريكيا. محاولة جعل التونسيين يعتادون على مسألة تداول الشأن الداخلي في سفارات كبرى الدول بتونس، بما يمثله ذلك من وصاية، وما يعنيه من إقرار بالتفريط في جزء من سيادتنا واستقلالنا، وأكثر من ذلك في حق تقرير المصير لشعب انتخب ممثليه ومن ثمّ حكومته، ليكتشف أن جانبا من مصيره بين أياد خارجية. وأمام هذا المشهد بكل تناقضاته لا بدّ من الحذر من تدويل أزمة داخلية، فالأمثلة عديدة والنتائج كانت واحدة لا تصبّ في مصلحة الشعوب، وإذا كنا نرى بوادر حل في الجزائر لا بدّ أيضا من الاستفادة من التجربة الجزائرية، حيث لم تمدّ السلطات الجزائرية يدها طلبا للمعونة خلال عشرية مواجهة الإرهاب في التسعينات. فبين "رجل مريض" و"أخ أكبر" ما زالت الأزمة متواصلة، ومن المفارقات أن بوتفليقة أكد لمخاطبيه الغنوشي والسبسي -وكأنه يعيد الكرة إلى التونسيين- ضرورة إيجاد "حل تونسي خالص" وفق ما ذكرته الصحافة الجزائرية.. ..ثلاث كلمات ما زال البحث جاريا عنها في تونس. usk�;i @ tl; unicode-bidi:embed'وعلى افتراض أن "الأخ الأكبر" يعنيه استقرار تونس سياسيا وأمنيا، فإن تدويل الأزمة التونسية أو محاولة تدويلها يمثل في حدّ ذاته جملة من النقاط يمكن حوصلتها فيما يلي:
استقبال بوتفليقة للغنوشي ثم لقائد السبسي في سياق مشاورات الحوار الوطني، فيه إساءة للمنظمات الراعية، ويشكل تمييعا للحوار وكسب الوقت، بل نجد هذا الموقف واضحا في تصريح عامر العريض لصحيفة "المغرب" قائلا: "إن الاستقالة (الحكومة) الوحيدة الممكنة هي بعد الانتهاء من المصادقة على الدستور ومن أجل توفير ضمانات إضافية مساعدة لإنجاح الانتخابات". شدّ انتباه الرأي العام بلقاءات مثيرة بنسق تصاعدي في باريس أو في الجزائر. محاولة الإيحاء بفك الارتباط بين مصير تونس والمخططات الجاهزة في عواصم خليجية معينة، بما أن التعاون مع الجزائر لحل الأزمة يمثل حلا مغاربيا. لا أحد يعرف ما إذا كانت المبادرة الجزائرية فردية أو تحمل بين طياتها دورا فرنسيا وأمريكيا. محاولة جعل التونسيين يعتادون على مسألة تداول الشأن الداخلي في سفارات كبرى الدول بتونس، بما يمثله ذلك من وصاية، وما يعنيه من إقرار بالتفريط في جزء من سيادتنا واستقلالنا، وأكثر من ذلك في حق تقرير المصير لشعب انتخب ممثليه ومن ثمّ حكومته، ليكتشف أن جانبا من مصيره بين أياد خارجية. وأمام هذا المشهد بكل تناقضاته لا بدّ من الحذر من تدويل أزمة داخلية، فالأمثلة عديدة والنتائج كانت واحدة لا تصبّ في مصلحة الشعوب، وإذا كنا نرى بوادر حل في الجزائر لا بدّ أيضا من الاستفادة من التجربة الجزائرية، حيث لم تمدّ السلطات الجزائرية يدها طلبا للمعونة خلال عشرية مواجهة الإرهاب في التسعينات. فبين "رجل مريض" و"أخ أكبر" ما زالت الأزمة متواصلة، ومن المفارقات أن بوتفليقة أكد لمخاطبيه الغنوشي والسبسي -وكأنه يعيد الكرة إلى التونسيين- ضرورة إيجاد "حل تونسي خالص" وفق ما ذكرته الصحافة الجزائرية.. ..ثلاث كلمات ما زال البحث جاريا عنها في تونس.