لا شيء أكثر إحباطا للمرء من خيبة الآمال.. والحوار الوطني قد يكون الفرصة الأخيرة أكثر من رسالة صريحة وجهها السفير الألماني جنز بلوتنر (Jens Plotner) أول أمس في الذكرى الثالثة والعشرين لتوحيد الألمانيتين والتي تحدث خلالها باقتضاب عن بلاده، ولكن بإسهاب عن المشهد السياسي في تونس وما تعيشه بلادنا منذ أشهر من تطورات متلاحقة، مخاطبا أصحاب القرار في السلطة كما المعارضة بلغة قد لا تخلو من التأنيب عن تداعيات فشل الحوار خطاب السفير الألماني راوح بين الإصرار على الالتزام بمساعدة المسار الانتقالي في تونس حتى النهاية، وتوجيه اللوم الحاد للفرقاء السياسيين حينا آخر، حتى أنه بدا في مقاطع كثيرة وكأنه معلم بصدد تقريع مجموعة من التلاميذ الفاشلين، وكانت آخر كلماته في الخطاب الذي واكبه حضور غفير من الضيوف، والذي كان يفترض أن يكون حول الوحدة الألمانية، أقرب إلى التحذير من خطورة المرحلة حيث قال "العالم ينظر إليكم.. إن كل العالم تقريبا يتطلع إلى نجاح المسار الانتقالي في تونس وأن يؤكد للجميع تلك القناعة الراسخة لدينا بأن الديمقراطية في تونس وفي كل العالم العربي هي الطريق إلى المستقبل".. وأيضا "لا شيء يمكن أن يكون أكثر إحباطا للمرء من خيبة الآمال، والحوار الوطني سيكون الفرصة الأخيرة وأرجو أن يرتقي الى تطلعات وطموحات التونسيين والتونسيات".. بحضور رئيس الحكومة المؤقت علي العريض وسلفه حمادي الجبالي ونائبة رئيس المجلس الوطني التأسيسي ورئيس حزب حركة النهضة راشد الغنوشي وعدنان منصر وأحمد نجيب الشابي وغيرهم من الوجوه السياسية في الترويكا والمعارضة الى جانب ممثلين عن المجتمع المدني والحقوقيين والسفراء، كشف السفير الألماني عن انشغال بلاده العميق إزاء ما تشهده تونس، وقال في مستهل كلمته: "قبل أسبوعين كانت الانتخابات في ألمانيا، وستبدأ غدا النقاشات بشأن تشكيل حكومة تحالف جديدة.. نوع من الحوار الوطني على طريقتنا ولن يكون خاليا من الصعوبات". وقد حرص السفير الألماني على التأكيد بأنه "مهما كانت تركيبة الحكومة الجديدة فإن سياسة دعم تونس الديمقراطية ستبقى أساس السياسة الخارجية لألمانيا"، واعتبر أن السبب في ذلك يعود الى الثورة التي حظيت بدعم كل ألمانيا وأن المسار من أجل الكرامة والديمقراطية ودولة القانون يجد كل الدعم ويتجاوز بالتالي كل الخلافات بين السياسيين" جنز بلوتر أشار الى أنه لا يمكنه إلا أن يتحدث عن تونس "لأنها محل اهتمامنا، ولأنها مصدر انشغال لنا، ولأنه لم يعد ينقص إلا القليل لاستكمال ما تبقى من هذه المرحلة المصيرية في الانتقال الديمقراطي، ولأننا فعلا نشعر بالقلق لأنه مع الاقتراب من الهدف كل شيء يمكن أن يتهاوى".. وقد توقف السفير الألماني عند تجربة بلاده معتبرا أن توحيد الألمانيتين لم يكن خاليا من الصعوبات واعتبر أن هذه التجربة هي التي تسمح له اليوم بتقييم ما يحدث في تونس منذ سنتين ونصف. وأضاف في كلمته مخاطبا السلطة والمعارضة "علينا ألا ننسى أن نجاح الربيع العربي ستكون له أبعاد تاريخية وسيحكم عليه بعد أربعين أو خمسين عاما وأنه بات من الواضح أن مصيركم يصنع اليوم وأن على كل طرف أن يتحمل مسؤولياته" السفير الألماني استطرد بالكشف عن أن بلاده تتابع منذ أشهر الاحداث في تونس بانشغال متزايد وتتابع الاحتقان العميق بين الفرقاء السياسيين وسوء التقدير لاعتبارات الظرف والقناعة لدى شريحة واسعة من الفاعلين السياسيين بأن عنصر الوقت في صالحهم ورغبة البعض الآخر في التخلص من الإطار الدستوري القائم الامر الذي بلغ درجة الازمة السياسية المتفاقمة، وهي أزمة تتزامن مع وضع أمني صعب وتحديات اقتصادية تدعو أكثر من أي وقت مضى الى الوحدة الوطنية وتجاوز الصراعات السياسية السفير الألماني خلص الى أن مستقبل تونس واعد وأنه لا بدّ أحيانا من استحضار الماضي مشددا أمام الحضور "بأن التونسيين يتذكرون جيدا كل الأسباب التي دفعتهم للثورة.. لقد أسقطوا نظاما ظالما كان ينتهك حقوقهم". وأكد السفير الألماني أن "لا أحد يتمنى عودة تلك الأيام" مشددا في ذات الوقت على أن "الديمقراطية هي الضامن والحصن الوحيد من كل المخاطر" قد تكون الصدفة وحدها شاءت أن يكون خطاب السفير الألماني للنخبة السياسية الحاضرة عشية انطلاق الحوار الوطني -إن كتب له الانطلاق- ليذكر الجميع بالتزاماتهم ومسؤولياتهم في رسالة كان من الأحرى أن ينطق بها صناع القرار أنفسهم في البلاد وهم الذين دفعتهم خلافاتهم وصراعاتهم وتعنتهم وإصرارهم على عدم الاستفادة من كل دروس الأحداث والأزمات والمضي قدما في إضاعة الوقت وتفويت الفرص إلى دفع التونسيين لليأس والإحباط، فكان لزاما عليهم أن ينصتوا الى دعوات السفير الألماني في مقر اقامته للاعتبار بتجربة ألمانيا في بناء مسارها الديمقراطي ووحدتها بعد سقوط جدار برلين ألمانيا وهي شريك أساسي لتونس تبقى تلك القوة الاقتصادية التي استطاعت تجاوز الازمة التي تمر بها منطقة اليورو وأن تتحمل بالتالي خطط إنقاذ الكثير من الدول التي توشك على الإفلاس. ولا شك أنها، وهي البلد الذي استطاع إعادة بناء اقتصاده المدمّر بعد الحرب العالمية الثانية وتحمل أعباء الوحدة بين الألمانيتين، قد دخلت بدورها على خط الأزمة الخانقة التي تعيشها تونس وربما يكون لها دورها أيضا في توجيه لعبة الحوار بعد تدخل واشنطن والجزائر وفرنسا، ومن يدري فقد لا يكون بإمكان نخبنا السياسية أن تجد طريقها للتوافق حول مائدة الحوار دون تدخلات أو ضغوطات من الخارج وعسى أن تقدم لنا ساعات الحوار الأولى ما يمكن أن يزيح هذه الصورة ويدفع للاعتقاد بأن الانفراج وشيك...