كمال التواتي فنان بارع. هذا أمر لا يرتقي إليه الشك فهو يملك مهارات كبيرة وقدرة واضحة على الآداء وطاقة جبارة قد لا تتوفر حتى لمن كان منه أقل شبابا بكثير كمال التواتي فنان متعدد المواهب وقد برهن على ذلك مجددا بعد أن اعتلى ركح المسرح البلدي بالعاصمة في سهرة الإربعاء 9 اكتوبر الجاري (تلاه عرض ثان في سهرة أول أمس الخميس 10 أكتوبر) بمناسبة تقديم مسرحيته الجديدة "إن..عاش" العرض المسرحي الجديد مونودراما تغوص في الواقع السياسي والإجتماعي للتونسيين بعد الثورة وخصوصا بعد الإنتخابات الأولى بعد الثورة. كمال التواتي وإن لم يعد يحتاج إلى براهين حول موهبته وقدرته فإنه اجتهد كثيرا في العرض وتمكن من أن يقنع الجمهور بذلك العالم المتحرك الذي تمكن من بعثه على الركح. عالم تدور فيه العديد من الشخصيات والنجاح فيه ليس بالأمر البديهي لأن المونودراما التي تقوم على الممثل الواحد تحتاج من الممثل جهدا مضاعفا لتقمص شخصيته الأساسية والشخصيات الأخرى التي يدخل معها في حوار أو يستحضرها. وفي"إن..عاش" قدم شخصية الطبيب المعالج التي تتحول في ردهات من العرض إلى شخصية المحقق. قدم لنا شخصيات أخرى وإن كانت اقل حضورا لكنه بين من خلالها أنه يحذق جيّدا وفي ظرف زمني وجيز وبارق أحيانا لعبة تغيير الجلد والمرور من شخصية إلى أخرى بيسر والمتفرج يقر له بذلك النجاح وأنه برهن عن قوة كبيرة في السيطرة على هذا الجنس المسرحي(الممثل الواحد) خاصة في المشهد الذي كان يتحاور فيه مع شخصيتين ويوجههما للقيام بعمل يدوي (اصلاح السلم أو المدرج المهدد بالسقوط) الصور في هذا المشهد جد قوية ومعبرة والإستعارات كانت موفقة والإيحاءات والمغزى السياسي التقطه الجمهور وعبّر عن ذلك بالتصفيق على هذا المشهد الذي كان متميزا في المسرحية.. وظف كمال التواتي قطع الديكور جيدا ويمكنه ببساطة أن يحول أي قطعة إلى آلة للعزف الشرقي والغربي وخاصة آلات الإيقاع. استعمل الطاولة وهي من القطع القليلة التي يتكون منها ديكور العرض إلى جانب كرسي وحيد وسط الركح وحقيبة أدباش صغيرة (الطاولة هي طاولة المرضى بالمستشفى) استعمل مجموعة من القوارير البلورية التي استغلها في بعض المشاهد بالمسرحية لتقوم بدور الآلة الموسيقية. الديكور الذي يحيط بالركح الذي هو عبارة عن جدران تتخللها شبابيك كبرى الشبابيك تتخللها فتحات لكنها محكمة الغلق كلها تحيل إلى أحد اروقة المستشفيات. يمكن أن يكون بيتا او منزلا لبطل المسرحية المهم ان هناك نية في ترك الأمور ضبابية. المسرحية تطرح فكرة السفر والتأرجح بين الرغبة في مغادرة البلاد وبين تركها. البطل الذي هو شخصية واعية بالوضع كما هو واضح من خطابه ومن مواقفه يجد في تعلاّت صغيرة سببا لتأجيل السفر لأنه غير واثق من رغبته في مغادرة البلاد وغير متأكد من صورته أمام الآخر. وفي نفس الوقت فإنه غير مرتاح للوضع في البلاد مشاهد عبارة عن معادلة رياضية المناخ الذي تدور فيه المسرحية يحيلنا على تونس ما بعد الثورة كما سبق وذكرنا. المسرحية مليئة بالرموز والإيحاءات والإشارات إلى الوضع السياسي في تونس. هي كوميديا هادفة. المواقف الهزلية والساخرة تشير إلى ذلك وزلات لسان الفنان المتعمدة تكشف الموقف النقدي الصارم للوضع السياسي وللحالة الإجتماعية في البلاد. الشخصية الاساسية التي قدمها كمال التواتي وهي ترتدي ثوب المرضى المقيمين بالمشتشفى يمكن أن ترمز في هذا العرض إلى الشعب الذي استفاق من غيبوبته. تهيأ له انه أنجز ثورة لكن الأحداث اثبت غير ذلك فيما بعد. يمكن أن تكون الضحية التي تقمصها الفنان هي تونس تونس البلد الذي استفاق من غيبوبته على الشعب وهو منقسم إلى تيارات وقد تحدث كمال التواتي في أحد مشاهد العرض عن الإنقسامات وكشف عن إدانة واضحة لتيّار بعينه. المسرحية غارقة في الرمز ورغم ذلك فإن بعض المشاهد أثارت الضحك لأن المتفرجين حزروا المعنى لكن ورغم خصال كمال التواتي في الآداء ورغم ثقته في نفسه ورغم حرفيته الكبيرة ومحاولاته بث الروح على الخشبة بقليل من قطر الندى في المشهد الذي رأيناه فيه يبلل المكان بالماء في محاولة للتخفيف من تشنج الجسم التونسي المتخشب في هذه المرحلة التي وصفها بالإنتحارية وكان يريد أن يقول انتقالية لكن للسان أحكامه خاصة عندما تتكرر زلات اللسان المقصودة فإنك تبقى بانتظار شيء ما لا ياتي. رغم الإضاءة التي تم توظيفها جيدا ورغم المصابيح الجميلة تشعر وأنك عندما يسدل الستار على العرض بعد ساعة وبضعة دقائق وأنك بقيت على عطشك لا تشبع المسرحية نهم المتفرج وتعطشه للحظات تتحرر فيها العقول وتشحن فيها العواطف. لم يفجّر النص الطاقات الكامنة في الممثل ولم نشعر بسحر اللحظة المسرحية. هناك اشتغال كبير على الرمز. العرض يستند إلى بحث كبير والكلمات منتقاة جيدا ولكن وباستثناء بعض اللحظات البارقة غابت متعة الفرجة وحلت محلها مواقف وكأنها معادلة رياضية. المتفرج يود في هذه المناسبة أن يتحرر كمال التواتي وهو الفنان المتكامل الذي يستطيع أن ينتقل بك في يسر شديد بين الكوميديا والتراجيديا. وعرض"ان ..عاش" لا يضحك ولا يبكي كذلك. بقينا بين المضحكات المبكيات. ربما قياسا بحال البلاد في هذه الأيام