بقلم :الأستاذ محمد الحبيب الأسود* لقد أفرزت الثورات العربية طبقة سياسية فاشلة من حيث القدرة على حدّ سواء في تسيير دواليب الدولة، أو في إدارة الأزمات والاستفادة من الحوارات الوطنية لتحقيق أهداف الثورة، أو في كيفية التموقع في المعارضة، وقد أخطأ الجميع في فهم طبيعة هذه المرحلة الانتقالية التي نعيشها ما بين الثورة والدولة، حيث فهمها كل طرف على أنها مرحلة تنافس على مواقع القرار والسيادة، وإنجاز برامج حزبية، وتطويع هياكل الإدارة والدولة لخدمة الولاءات الإيديولوجية، في حين أنها مرحلة تأسيسية جاءت نتيجة حراك ثوري شعبي؛ والمفروض أن يتمّ فيها نحت الملامح الدستورية والقانونية لطبيعة نظام جديد لجمهورية ثانية، وتنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية، تنتهي بإرساء هياكل شرعيّة تحقق الاستقرار السياسي، في اتجاه تحقيق أمن حياة الناس، وتيسير معاشهم، والسير قدما نحو النماء الاقتصادي والرفاه الاجتماعي... ولذلك قويت عند الجميع رغبة إقصاء الآخر، فعمد كل طرف الى إفشال برامج خصمه إلى حدّ الإستقواء بالأجنبي، والتفكير في الانقلاب على الهيآت الشرعية المنتخبة، وإدخال البلاد في مواجهات دامية وصدامات لا طاقة للشعب التونسي على تحمّلها وتحمّل تبعاتها، مما يسّر على المخابرات الدولية الولوج بسهولة الى حلبة الصراع لإضعاف الدولة وأدوات الحصانة فيها، وهرسلة الوضع الأمني والسياسي في اتجاه الفوضى والتقسيم، خدمة لمشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي من مقتضياته إدخال دول «الربيع العربي» في المنظومة الأمنية الأطلسيّة التي من ثوابتها الاستراتيجية الحفاظ على أمن «إسرائيل» وضمان تفوّقها العسكري والاقتصادي والعلمي على باقي دول العالم العربي والإسلامي. ومن فصول هذا المشروع، إخضاع هذه الدول لنظام السوق العالميّة التي تديرها البنوك الأمريكية ويسيطر عليها الصيارفة اليهود، ويقوم فيها صندوق النقد الدولي بدور سلطة حماية لمصالح الأطراف الغربية، وأداة رقابة ضد تنفيذ البرامج الوطنية التحرّريّة المناهضة لسياسات التحالف الغربي الصهيوني... لن يكون فرد مواطن، أو مجموعة وطنية، أو حزب سياسي مستفيدا من هذه الانتكاسة والردّة عن مطالب الحرّية والكرامة التي نادت بها حناجر الشيب والشباب، وحمتها صدور عارية ضدّ رصاص القمع والاستبداد، فالسفينة إذا غرقت سيكون الغرق مصير الجميع.. ما تشهده تونس اليوم، هو صراع حول قيادة ثورة لم تكتمل بعد، وحول مناصب سياسيّة يظنّ كل واحد من أطراف الصّراع عليها بأنها بوّابة هامّة لرسم أهداف الثورة حسب منظوره، والتأثير مستقبلا في ملامح النمط المجتمعي من منطلقاته الإيديولوجية والعقائدية، فكان التفكير الذرائعي ومبدأ الغاية تبرّر الوسيلة سيّدَي الحراك السياسي، فلا ترى الواحد ممّن ينسبون أنفسهم للوطنية، يمدّ يده لحلحلة مشاكل البلاد والعباد في هذه المرحلة ما بين الثورة والدولة، إلا بالقدر الذي يخدم به نفسه وحزبه وجماعته... وبقي الشعب بين هذا وذاك يتلمّس قوت يومه وأمن أفراده وسلامة دياره ومستقبل أجياله... ولربّما أتيحت الفرصة لهذا الشعب الكريم أن يقول كلمته بطريقة سلميّة في انتخابات حرّة وديمقراطية، فيرسم لوحده أهداف ثورته، ويحدّد نمط مجتمعه، ويضع حدّا للتجاذبات السياسية التي مزقته وشتّتت كلمته. ومن منطلق هذه القراءة السريعة للواقع السياسي في تونس، وللأزمة التي دخلت فيها البلاد بعد الاغتيال الأول والثاني، أرى أن المبادرة باتّخاذ جملة من الإجراءات العملية، أمرضروري وهام للبدء في حماية الانتقال الديمقراطي الثوري من التجاذبات السياسية والتدخلات الأجنبية، وتجنيب بلادنا العنف والصدامات، ومن ثم إنجاز مرحلة التأسيس والمرور بسلام إلى مرحلة الاستقرار. وألخص هذه المبادرة في النقاط التالية: • على القوى السياسية الحرّة التنديد بقوّة والرفض رفضا قاطعا التدخّلات الأجنبيّة في الشأن الداخلي التونسي، ومحاولة تأثيرها في المسارالانتقالي لصالح هذا الطرف أو ذاك، وشجب المحاولات المتكرّرة من بعض الأطراف للاستقواء بالأجنبي ودعوته للتدخل في شؤوننا، وهذا عيب لا يسمح به صدق الانتماء للوطن تونس، أرضا وشعبا وسيادة. • الحفاظ على المجلس الوطني التأسيسي بكل صلاحيّاته من حيث تمثيليته للشعب وللشرعيّة الانتخابية، رغم النقائص والارتباك في أدائه، ورفض التعامل مع كلّ من يعمل على تعطيل هذه المؤسّسة بهدف إحداث الانقلاب، واستثمارالفراغ لصالح أجندات أجنبيّة أو مصالح إيديولوجيّة وحزبيّة ضيّقة، ومن ثمّ دعوة كل النوّاب إلى الالتحاق بمقاعدهم داخل المجلس، وختم الدستور، حفاظا على الوحدة الوطنية ورعاية للمصالح العليا للبلاد. • مطالبة الحكومة الحالية بالاستقالة وتحويلها الى حكومة تصريف أعمال، إلى غاية التوافق في أقرب وقت على شخصيّة وطنية مستقلة ذات كفاءة سياسية يُعهد إليها تشكيل حكومة مصغّرة مستقلة لن يترشح أفرادها للانتخابات القادمة، تقوم بالتعاون مع المجلس الوطني التأسيسي بختم الدستوروالهيئة الوطنية العليا المستقلة للانتخابات، ومن ثمّ إنجازانتخابات تشريعيّة ورئاسيّة في أقرب الآجال. • إن تحصين الثورة وحمايتها من الالتفاف والإجهاض، لا يكمن في العزل السّياسي لرموز منظومة الفساد التي قام عليها نظام المخلوع فحسب، وإنما يكمن أيضا في ضرورة تحصين الدولة ضدّ الأداء السيّء للمشاركين في الحكم، بمنعهم من الاستقواء بأجهزة الدولة ضدّ خصومهم السياسيّين، أو جعل القرارالسّيادي التونسي رهين تجاذبات مصالح خارجيّة، وذلك بالرصد والمساءلة والمحاسبة الفورية... وتحصين الثورة أيضا يمرّ حتما عبرتحييد الاتحاد العام التونسي للشغل، وإلزامه بدوره الوطني في مثل هذه المرحلة الدقيقة، بالكفّ عن الاعتصامات والإضرابات الضارّة بدورة الإنتاج والمربكة للأجواء السياسية، وبعدم الزجّ بهياكله وبالكتلة العمّالية في الصراعات السياسية احتراما لدوره المطلبي النقابي ولنظامه الأساسي الذي يمنع الانتماء أو التوظيف الحزبي لتحرّكات العمّال زمن الاستقرار والسلم، فما بالك زمن الشدّة والاضطراب الأمني والسياسي الذي تعيشه البلاد في مرحلة ما بين الدولة والثورة... عاشت تونس موحدة، حرّة ومستقلة.
● سياسي مستقل ورئيس جمعية السّراج للتوافق والثقافة والتنمية