لكل الشعوب محطات خالدة في تاريخها ولكل الشعوب معاركها ونضالاتها في تحرير الأوطان من قيود الاحتلال وظلمه واضطهاده تماما كما أن لكل شعوب الأرض ملاحمها ضدّ رموز الظلم والفساد والاستبداد وهانة الشعوب، ومعركة الأيام الأربعة على أرض بنزرت كانت وستظل واحدة من المعارك المصيرية في ذاكرة التونسيين باعتبارها المعركة الأخيرة قبل رحيل الاحتلال نهائيا وجلاء آخر جنوده عن بلادنا، معركة مهما اختلفت القراءات في أحداثها ودوافعها ومهما تباينت الأرقام والإحصاءات في تحديد حصيلة شهدائها البررة وتقييم حجم التضحيات الجسام التي تحمّلها أهل بنزرت ومعهم كل التونسيين الذين روت دماؤهم الزكية التراب التونسي حتى لا تدنسه قدم المستعمر، فإنها لا يمكن أن تغيب عن اهتمامات التونسي ولا يمكن ألا تستعيدها الذاكرة لتغوص معها في خفايا مرحلة مصيرية في تاريخ البلاد. ولعل المؤسف فعلا أن يكون إحياء ذكرى الخمسين لعيد الجلاء التي تزامنت أول أمس مع عيد الاضحى بكثير من التجاهل واللامبالاة من جانب الرؤساء الثلاثة المؤقتين الذين يبدو أنهم اتفقوا بشكل مثير للاستفزاز على تقديم الحدث وسارعوا عشية الرابع عشر من أكتوبر الى الوقوف على قبر شهداء معركة بنزرت لالتقاط الصور التذكارية ووضع اكاليل من الزهور، فجعلوا أنفسهم في مظهر مثير للشفقة وكأنهم في سباق مع الزمن، وأعادوا بالتالي ما رافق إحياء ذكرى عيدي الاستقلال والشهداء والحال أنه كان بالإمكان أن يكون هذا الحدث احتفالا مضاعفا يجمع بين الديني والوطني ومناسبة لتكريس وترسيخ مشاعر الوطنية والتذكير بقيمة الأرض والوطن في الدين، والتي تقرّب بين التونسيين ولا تنفر، وتجمع لا تفرّق، وفرّطوا بذلك كالعادة في أن يكون عيد الجلاء مناسبة وطنية خالدة تذكّر بنضالات رجالات تونس واستعادة دروس أول ملحمة للجيش الوطني ولكوكبة من الضباط الذين رفضوا فكرة الهزيمة وقبلوا التحدّي رغم غياب المعادلة وافتقار الجيش آنذاك لأبسط المعدّات في مواجهته للقوى الفرنسية... وكم كان مهمّا استعادة نضالات وتضحيات الجيش الوطني بين الامس واليوم وهو الذي يقف منذ فترة طويلة في مواجهة معركة مصيرية في تحديد مستقبل البلاد والقضاء على الإرهاب و فلول الإرهابيين وتجار السلاح وعصابات ترويج المخدّرات وتبييض الأموال .تجاهل الحدث الممثل في عيد الجلاء لم يتوقف عند الجانب الرسمي بل ان أغلب الفضاءات والمنتديات والبلاتوهات التلفزية مرّت مرور الكرام على الحدث كان ذرّا للرماد ولم يتجاوز اهتمامها بهذا الموعد درجة رفع العتب ورد اللوم ... شهادات بعض المحاربين القدامي في هذه الذكرى كان لها وقعها ونبرتها الصادقة وهم الذين خبروا تلك المعركة وعايشوا أطوارها وأدركوا الكثير من خفاياها، وقد كان لما نقل عن العقيد المتقاعد البشير بن عيسى على هامش الندوة الصحفية التي عقدها الهلال الاخضر التونسي والتي شدد فيها بالخصوص على ضرورة اسهام كل الاطراف في كشف خفايا وأسرار معركة بنزرت، كاشفا في ذات الوقت أن بلادنا لا تعير أي اهتمام لتاريخنا العسكري بما في ذلك الوقائع البطولية التي صمد فيها التونسيون في وجه الغزو الاستعماري الامر الذي وقف دون الإقرار حتى الان ببسالة الجيش الوطني، ما يؤكد اليوم أن ملحمة بنزرت وهي المحطة الخالدة في ذاكرة التونسيين أبكر وأكبر وأبقى من كل الحكومات والقيادات... اذا كان من حق الأجيال الجديدة في تونس وجيل الشباب الذي صنع الثورة وأوشك أن تسلب منه أن يدرك اليوم أهمية معركة الجلاء في تاريخ تونس الحديث فان الأهم من كل ذلك أن يدرك هذا الجيل الذي يدفع اليوم للسقوط في اليأس ويخضع عن وعي أو دون وعي لكل أنواع التطويع واستيلاب العقل والفكر ويجند للجهاد في سوريا والقيام بأعمال ارهابية في بلاده وضد أبناء شعبه أن قوات الجيش الوطني كانت ولا تزال تقود معركة الجهاد الأكبر ضد الطغاة من أمراء الاحتلال الى تجار الدين وصناع الإرهاب الذين يفتقرون لثقافة ومفهوم الوطنية ولا يمكنهم بالتالي أن يدركوا معنى عيد الجلاء...