بقلم: المولدي الشاوش* البلاد التونسية التي تقلّبت في أرضها حضارات إنسانية رائعة أكسبت شعبنا التونسي عديد القيم النبيلة التي تفاعل معها ايجابا في عديد مراحله التاريخية وكانت له شعارا بارزا في مختلف فتراته القاسية منها والسخية على ضفاف البحر الأبيض المتوسط منبع الأديان وأصل التاريخ وقد أنبتت سواحل هذا البحر المصريين والفنيقيين والعبرانيين واليونان والروم والعرب الذين غرسوا بذرة التمدن البشري فأينعت غصونها ونالت من ثمارها كافة الأمم التي تداولت على أرضها الطيبة. فتونس الخضراء بموقعها الإستراتيجي الضارب في أعماق التاريخ جعلها من عهد بعيد مسلك الذاهبين ومحطّ الوافدين كما كانت مطمحا لآمال الفاتحين والغزاة. فتاريخ تونس حافل بالأمجاد التي خلدها التاريخ. ومن هذا المنطلق الحضاري الذي عاشته بلادنا على مر التاريخ وكانت مؤثرة في احداثه وقضاياه الكبرى بالكون من قرطاج عليسة الى حنبعل الى ماسينيسا ويوغرطة الى عقبة بن نافع وحسان بن النعمان وطارق بن زياد والى عديد المصلحين امثال خير الدين باشا وبيرم الخامس وسالم بوحاجب والى من أتى بعدهم من السلاسل الذهبية المتتابعة من البنائين والمجدّدين للفكر التونسي. فمثل هذا الرصيد الحضاري الثري يفرض على السياسيين بتونس في هذا الزمن الرديء الذي تعيشه البلاد منذ الثورة أن يكتلوا جهودهم من أجل إعادة البلاد الى رصيف الحياة الهادي لأن بلادنا اليوم على كف عفريت رغم القضاء على المافيا النوفمبرية التي حكمتنا لأكثر من 23 سنة وقد خلنا أن الشعب والسياسيين من ورائه سوف يكونون بنائين مهرة لصرح تونس الجديدة التي هدّمتها الأيادي القذرة وبذلك تستعيد بلادنا مجدها وتنفض عنها غبار التأخر الذي لازمها طويلا الا أن أحلامنا الوردية باءت بالفشل وقد عمّقت الأحداث الدموية المتتالية جراحات المواطنين وكثفت من بؤسنا الإجتماعي والإقتصادي والسياسي فالسلبيات اليوم غمرت كل القطاعات والفساد استشرى في مفاصل الدولة وفي الأذهان التي خرّبتها الإيديولوجيات الضيقة التي لا تفيد حتى أصحابها الذي يسوقون لها اللهم إلا بأن تصير ذواتهم نسخة مشوّهة من هذا الآخر المختلف الذي يسعون للإرتماء في أحضانه إذ كان عليهم أن يتذكروا دائما أنهم ينتمون الى حضارة تونس بعينها وأن خدمة هذه الحضارة لا تكون الا بتقوية انتمائنا لها عبر حواراتنا البينية حتى نحافظ على أنفسنا من الذوبان وسط المستنقعات الآسنة فالواقع المرّ الذي نعيشه يحتم علينا أن نُسلّط نقدنا المسؤول لمحاربة السلبيات وبجسارة سعيا وراء الوضوح وإبراز الحقائق المُعتّمة من هذا الطرف السياسي أو ذاك لأننا في حاجة ماسة اليوم الى المناهج الواضحة التي تُجنّبنا الإرتجال والأحكام الجائرة على هذا الخصم السياسي أو ذاك وبذلك نكون صادقين مع شعبنا وموضوعيين في أحكامنا والدفاع عنها بكل حمية ودون اعتبار للأفكار المعزولة التي تريد الهروب بنا الى المتاهات الضيقة لأننا في مرحلة مِفصلية صعبة ودقيقة علينا الخروج منها بأيسر السَّبل يمينا ويسارا وألا نجعل منها وسيلة للتعقيد وتأزيم أحوالنا التي تشكوا الجفاف والضياع الذي لوّث حياتنا بعديد المآسي عشناها لثلاث سنوات اتت على الأخضر واليابس. ساستنا اليوم لم يعوا الديمقراطية التي يكون ولاؤها للوطن أولا وآخرا حتى نبتعد عن الصراعات الجانبية والتي لا طائل من ورائها في وضعنا الراهن فالمعارك السياسية الحامية الوطيس في الإذاعات الخاصة والعامة والقنوات التلفزية وفي الإجتماعات الخطابية النارية التي لا تزيد حالنا الا بؤسا لأنها لا تصب قي باب المصلحة العامة بل يتجهون بها الى الدفاع عن الأصول التجارية لكل حزب والحلم باحتلال الكراسي الوثيرة والجرايات المنتفخة في اجهزة الدولة ومفاصلها المركزية والجهوية والمحلية اذ قد وصل الأمر بتجار السياسة الذين لم يمتلكوا بعد قوانينها الأصيلة والمتشعبة بإعتبارهم من المراهقين في هذا الباب لا في العير ولا في النفير إلا أنهم في غياب السياسيين المُحنّكين الذين يملأون كراسيهم صاروا ويا للأسف الشديد يهرولون من وسيلة إعلام إلى أخرى وهم يصيحون مولولين ومستعملين لغة القذف والشتم لهذا الطرف السياسي أو ذاك دون احترام لقواعد اللعبة السياسية الحكيمة التي تنبذ العنف بنوعيه المادي والمعنوي إلا أن الحرية بتونس اليوم قد فهمها الكثير من اشباه السياسيين فاطلقوا العنان لألسنتهم الحادة للسبّ والشتم ولم يسلم من هذه الألسن لا الحاكم ولا المحكوم وبهذه المناسبة لابد للقانون أن يكون هو الفيصل في مثل هذه الحالات والظواهر المشينة حتى لا يتسع الخرق على الراتق وندخل بوابة الصَّعلكة من الباب الكبير. قرأنا مؤخرا في احدى الصحف ما يلي:(والظاهر أن بيضة فرخة الشاق واق التي أهدرت شرف الوزير وشرف الحكومة التي يمثلها لم تكن إلا تعلة في الأحجية أو الخرافة حسب ما يعرفه (الشكلانيون الروس) في تحليلهم للخرافة والخرافة في الحقيقة تروي ما هو أعمق وماهو مغن ذلك أن الأنظمة الفاشية العريقة منها والناشئة خاصة تدرك خطورة الصوت الحر وهي لذلك تعمد إلى إجراءين أساسين لا ثالث لهما: تكميم الأفواه والبروبندا، ولأننا نشهد ديكتاتورية ناشئة، بدأنا نتنفسها في الهواء ويستطرد قائلا: المخاتلة والمخادعة أصبحت أسلوب القضاء التونسي والكيل بمكيالين والاستجابة البافلوفية لرغبات حكومة النهضة من مهاترات هذا القضاء) فمثل هذا التراشق بالتهم المجانية لا يصل بنا إلى ساحل النجاة لأن الممارسة الديمقراطية المسؤولة توجب الاستماع إلى الآخر المختلف للوصول إلى الحقيقة. فالخلاف والاختلاف ليسا دائما من العناصر السلبية كما يتبادر إلى الأذهان القاصرة بل الخلاف والإختلاف بين أصحاب العزائم الصادقة والنفوس الكبيرة نعتبره ثراء تتّسع به الآفاق الفكرية والخلافات المستعصية لا تحل بالقذف والشتم والحرق والتدمير أو بالتظاهر المفبرك والإستقواء بالشارع المدسوس بل لا تُحَلُّ إلا بسعة الصدور والحوارات الجادة والمفتوحة التي لا يتفرعن فيها اليسار عن اليمين أو العكس مع الخضوع دائما إلى ما يُثبته البرهان وما تدعمه سلطة الشعب الذي هو سيد الجميع وبهذا المنظورفإن الحوار هو الذي يُقرّب السياسيين بمختلف اتجاهاتهم إلى بعضهم بعضا من أجل الوصول إلى المصلحة الوطنية بأيسر السبل إذا كانت النفوس كبيرة مُترعة بحب تونس. والحوار له آدابه وأُسُسُه التي تجعله في المستوى الحضاري المنشود ودون النزول به إلى المراتب المُتدنية التي لا تصل بالمتحاورين إلا إلى القطيعة والشغب والصخب. فالحوارات الجادة على مر التاريخ لا تكون إلا بين المثقفين من السياسيين المُحنّكين والوطنيين الخُلّص الذين لهم عديد الفضائل العلمية والأخلاقية التي تُؤهلهم وتجعلهم يرتفعون بمستوى الحوار إلى ما ينفع الناس ودون الهروب به إلى المنافع الشخصية والإيديولوجية الضيقتين. وحتى أسلافنا كانوا لا يستنكفون من الخلاف والاختلاف حيث قال أبو إسحاق الشاطبي: روى ابن وهب عن القاسم بن محمد قال : أعجبني قول عمر بن عبد العزيز:(ما أحبّ أن اصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يختلفون لأنه لو كان قولا واحدا لكان الناس في ضيق وإنهم أيمة يُقتدى بهم فلو أخذ رجل بقول أحدهم لكان سنة) أمّا الإمام أبو حنيفة فيقول:(أنا مع من يختلف معي كمثل رجل ضاعت ناقته في الصحراء فهو يريد الناقة فلا فرق عنده هل هو سيجدها؟ أم أحد آخر سيجدها؟ وأنا أبحث عن الحق لا يَفرُق معي عن لساني سيكون أم عن لسان غيري). وختاما لا بد من النظر بحكمة إلى ما صرنا إليه من غموض في مراحل هذه المسيرة الثورية التي أثقلت كاهلنا اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا والتي طال أمر اشكالياتها ونحن لم نُوفّق بعد إلى الحلول النهائية حتى نجتاز هذا الإمتحان الصعب بسلام لأن الجغرافيا السياسية ببلادنا متداخلة في بعضها بعضا وما عاد لنا فهم صائب لنتوءات تضاريسها الجارحة حتى نتوقاها ونسلك ببلادنا طريقا سليما يجنبها الهزات العنيفة ويصل بها إلى الصحو الحضاري المنشود. لأن تونس اليوم ليست كما عهدناها تاريخيا بل هي منقسمة مفتتة بين فسيفساء من التيارات اليسارية الراديكالية والتيارات القومية والوسطية والتيارات الإسلامية المعتدلة والتيارات الإسلامية الجهادية والتكفيرية الجانحة إلى الغُلوّ والتَّصعيد. كما لا ننسى التيارات الدستورية والتَّجَمُّعيَّة المتحصنة برجال الأعمال التي بدت تَتَلَمَّسُ طريقها إلى الظهور وسط هذا الضباب الكاسح الذي حجب الرؤية الصحيحة عن الجميع رغبة منهم في إعادة المجد الهارب واستعادة الدكتاتورية والعصا الغليظة الآفلة والأليفة لهم.