لا نبالغ إذا قلنا أن من بين أبرز المجالات التي كان ينبغي لحكومة "الترويكا" أن تتعاطى فيها بواقعية وعقلانية بعيدا عن كل تجاذب سياسي ودوافع إيديولوجية مجال السياسة الخارجية باعتباره المجال الذي يتوقف عليه إكساب بلادنا الثقة المطلوبة لبناء علاقات تعاون مثمر مع الدول المجاورة وحتى البعيدة جغرافيا عنا في إطار الاحترام المتبادل وبما يعزز استقلالنا الوطني، ويعطي لمواقفها وزنا يتجاوز حجمها الجغرافي وقدراتها الاقتصادية في مختلف المحافل الدولية. ونقول كان ينبغي لأن المتمعن في أداء أول حكومة انبثقت عن انتخابات حرة في أعقاب ثورة الكرامة، ثورة الرابع عشر من جانفي 2011 المجيدة على هذا الصعيد، لا يمكنه إلا أن يلحظ أنه لم يكن موفقا بصورة عامة وألحق أضرارا جسيمة بمصالح البلاد الحيوية وعلاقاتها الخارجية التي اتسمت على الدوام ومنذ الاستقلال بالتوازن والاعتدال، في وقت بلادنا أحوج فيه من أي وقت مضى إلى أقصى قدر من الدعم والمساندة الخارجية للبلوغ بثورتها إلى بر الأمان. وللأسف فإن انعدام التوفيق هذا لم يكن نتيجة انعدام الخبرة لدى المسؤولين السياسيين عن هذا الملف وفي مقدمتهم رئيس الجمهورية المؤقت ووزير الخارجية، بقدر ما كان ناجما عن أخطاء في التقدير وهنات ذات ارتباط بدوافع إيديولوجية واستراتيجيات مبنية على رؤى حزبية ضيقة، استراتيجيات سعت إلى القطع مع الثوابت التي تأسست عليها سياستنا الخارجية إلى حد الآن والمتمثلة بالخصوص في النأي بالنفس عن التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الشقيقة والصديقة، وإعطاء الأولوية في علاقاتنا الاقتصادية والتجارية الخارجية إلى تعزيز التعاون مع الشريك الأوروبي، الأقرب إلينا والذي تربطنا به مصالح متداخلة يعود تاريخها إلى عقود طويلة. ويمكن أن نسوق من بين هذه الأخطاء الجسيمة تلك التي شملت المواقف الرسمية إزاء عدد من القضايا الإقليمية والعربية على غرار الملفين السوري والفلسطيني الداخلي، ومنها إعلان رئيس الديبلوماسية التونسية رفيق عبد السلام في خطوة متسرعة غير محسوبة إلى الإعلان عن طرد السفير السوري في تونس "انتصارا للثورة السورية" ما أوقع البلاد في حرج شديد باعتبار أن السفير المذكور كان قد غادر البلاد منذ عدة أشهر، وأن البعثة الديبلوماسية السورية وقع خفضها إلى مستوى القائم بالأعمال، بالإضافة إلى أنه عرض للخطر حياة جاليتنا الكبيرة المتواجدة في سوريا والتي أصبحت نتيجة هذا القرار غير الصائب - الذي هو بمثابة إعلان حرب في القانون الدولي - بلا ممثلية ديبلوماسية تحميهم. كما يمكن أن نشير إلى التدخل في الصراع الداخلي الفلسطيني عبر الانتصار لشق على آخر على أساس إيديولوجي صرف وذلك من خلال توجيه الدعوة لزيارة تونس إلى رئيس حكومة "حماس" المقالة إسماعيل هنية وتجاهل رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية محمود عباس. ولم تقف الأخطاء الدبلوماسية عند هذا الحد، بل شملت أيضاً اتخاذ الحكومة المؤقتة بتوصية من رئاسة الجمهورية قرار إطلاق الحريات الخمس بين تونس والدول المغاربية (وهي حرية التنقل والإقامة والعمل والاستثمار والمشاركة في الانتخابات البلدية)، دون ان يقع التنسيق مع هذه الدول، ما أجبر الحكومة على التراجع عنه في وقت لاحق، خصوصا بعد الانتقادات الشديدة التي قوبل بها من جانب السلطات الجزائرية الشقيقة. هذا دون نسيان فضيحة تسليم رئيس الوزراء الليبي السابق البغدادي المحمودي إلى السلطات الليبية في 15 ماي 2012، خلافا لمقتضيات المواثيق الدولية لحقوق الانسان والذي تسبب في حينه في أزمة بين رئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية المؤقتتين. سلسلة أخطاء كثيرة مدمرة لمصداقية سياستنا الخارجية كان آخرها إقحام الرئيس المنصف المرزوقي في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدةتونس في الشأن الداخلي المصري عبر دعوته إلى الافراج عن الرئيس المعزول محمد مرسي، ما أدى إلى توتير العلاقات - التي كانت جيدة إلى حد تلك اللحظة - بين البلدين. ولا شك أن إصلاح الأضرار التي تسببت فيها والتي بدأنا نشهد انعكاسها في مراجعة الجهات الأوروبية المانحة للقروض عن تعهداتها إزاء بلادنا في هذا المجال سوف لن يكون هينا، ولن يكون ممكنا دون التنفيذ الدقيق لخارطة طريق رباعية الحوار الوطني.