بقي كبيرا في نظر المثقفين الذين قلما يذكرون بعضهم بخير في تونس.. ذكاء وقاد وسرعة بديهة وحلم في التعامل مع الآخر مهما حلقت به الأفكار والأحكام المسبّقة حتى تلك التي دحضتها الأيام وكشف زيفها التاريخ والأحداث المتعاقبة.. حبّه صادق رغم نفيه عن هاجس النّهوض بتونس من خلال الأمن الثقافي ورغم تعذيبه بالتغييب عن ساحة الفعل المؤدّي لتنفيذ رؤاه التي استلهم منها المصريّون والفرنسيّون وطبّقوا البعض منها. أكثر من نصف قرن من الفعل الجاد والمثمر والرّغبة الجامحة في النّهوض بتونس وتأكيد هويّتها التونسيّة ..لم تفتر له عزيمة رغم تنكر البعض لإنجازاته.. ولم يلمْ أحدا ولم يحقدْ .. بل تجدُه في المناسبات الثقافيّة العامة كالخاصّة يبحث لمن خانوا تونس بإبعاده وإقصائه عن الأعذار ويطالب بردّ الاعتبار لمن ساعده على تنفيذ أفكاره عندما كان في السلطة. ذاك هو الأديب البشير بن سلامة الذي كرّمه النادي الثقافي أبو القاسم الشابي خلال الملتقى الدوري لنادي القصّة الذي التأم مؤخرا بالحمّامات في جلسة حضرها عدد كبير من المثقفين بعضُهم التحق بالملتقى حبّا واحتراما واعترافا بجميل الرّجل ورغبة في تجديد العهد معه؛ ومن بين هؤلاء الكاتب يحي محمّد الذي استغل فرصة التكريم ليقدّم شهادة على نجاح البشير بن سلامة في إدارة شؤون الثقافة في تونس عبر المؤسّسات التي عمل على إحداثها آنذاك . المسيرة السياسية والثقافية لهذا الرّجل مضيئة ولكنّ نادي القصّة وخلال حفل تكريمه اهتم أكثر بالفعل الثقافي وبالجانب الفكري لحياته لا فقط عندما كان وزيرا للثقافة ( 1981/ 1986 ) وإنما أيضا بعد إخراجه من السّاحة الثقافية وفرض تغييبه؛ حيث أصرّ الكاتب أحمد ممّو في بداية الحفل على أنّ لقب رجل الثقافة والأدب يُغني البشير بن سلامة على بقيّة ألقابه وأنه يكفيه فخرا إجماع الأدباء والمثقفين عامة على أنه شخصيّة أدبيّة رسّخت حضور الأدب التونسي في الذاكرة الجمعيّة والواقع الذي نعيشه اليوم. اختار الدكتور بوراوي عجينة وهو يقدّم دراسة عن البشير بن سلامة ان يتحدّث عن مغامرة الكتابة السرديّة والثقافيّة والفكر والسّياسة عند هذا الرّجل الذي وُلد سنة 1931 وناضل منذ سنة 1947 في صفوف الحزب الدستوري الجديد ضدّ الاستعمار الفرنسي ... كتب في صفحة "شباب اليوم" بجريدة الصّباح وترأس إدارة تحرير"مجلة الشباب" الثقافيّة والسياسيّة . انتمى بن سلامة إلى أسرة تحرير مجلة "الفكر" وأشرف على صدورها 10 مرّات سنويّا طيلة 31 سنة إلى أن تمّ إيقافها في جويلية 1986 وأثمرت علاقته الوطيدة بالرّاحل محمّد مزالي وتشجيعه له وإيمانه بفكره تأسيس العديد من المنشآت والمؤّسات الثقافية التي تعمل إلى اليوم بفضل قوانين سنّها بن سلامة فكانت قابلة للتطبيق وما زالت تُطبّق إلى اليوم. ساهم بن سلامة في تأسيس "اتحاد الكتاب التونسيين" وسُنّت في عهده قوانين مكنت من تطوير الثقافة... وساهم في تأسيس "المجلس الوطني للثقافة" و"المعهد العالي للمسرح" و"المعهد العالي للتنشيط الثقافي" و"بيت الحكمة" و"المركز الوطني للاتصال الثقافي" و"صندوق للتشجيع على الانتاج السينمائي" و"تشييد الجزء الأول من مقرالمكتبة الوطنية" و"المعرض الدولي للكتاب بتونس". وفي فترة ترِأسه لوزارة الثقافة رصدت 12 جائزة سنويّا لأفضل أنواع الإنتاج الثقافي والفكري والحضاري؛ كما حرص على إنشاء "صندوق التشجيع على طبع الكتب وشرائها" من قبل الوزارة وسنّ قانونا للتخفيض من كلفة نقل الناشرين الكتب لعرضها في المعارض الأجنبيّة؛ كما حرّر عمليّة توزيع الكتب وسمح بها للخواص بعد أن كانت الدّولة تحتكرها . البشير بن سلامة الأديب كتب القصّة القصيرة والرّواية واللوحة الأدبية الذهنيّة والمسرحيّة والمذكرات الشخصيّة والمقالة الصحفيّة والدّراسة الأدبية والنقديّة، وأنجز بحوثا متنوّعة في اللغة والتاريخ والفكر والسّياسة والحضارة وترجم أقاصيص وكتبا تاريخيّة وألف قرابة 18 كتابا من أهمّها الرّباعية المتكوّنة من روايات ( عائشة،عادل ،علي ،الناصر ) ومسرحيّة "المتمرد" التي تطرح حسب استشهاد استعاره بوراوي عجينة من مقال للزّميلة حياة السّايب (صدر في الصّباح 2009) :"عدة قضايا سياسيّة أساسيّة من بينها علاقة الحاكم بالمبدع وخاصة بالشعراء والفلاسفة ونجد لدى الكاتب ميْلا لإنصاف الشاعر أبو نواس وهو الشخصيّة الرئيسيّة في مسرحيّة "المتمرد." من ناحيته استغل البشير بن سلامة الفرصة لتوجيه تحيّة لمن ساندوه أيام كان ذكراسمه ممنوعا وليترحّم على روح الرّاحل محمّد العروسي المطوي الذي تصدّى معه لكثير من الانحرافات وعلى روح الرّاحل الصّادق المقدّم وليدعو لردّ الاعتبار الى المرحوم محمّد مزالي الذي عمل الكثير من أجل تونس، وذكر ببعض الإنجازات التي يعتزّ بها وبعمله على أن تصبح الثقافة صناعة تسوّق وأن يدخل محتواها ضمن آليات التنمية الشاملة لأنه كان ومازال يؤمن بأنه لا مستقبل زاهرا لتونس إلا بازدهار الثقافة وردّ الاعتبار لأهلها؛ ولكنه عبّر عن أسفه لعدم ذكر إسمه كمؤسّس لمجلة "فنون" عندما عادت للصدور. البشير بن سلامة مازال يكتب ويبدعُ وقد صدر له مؤخرا كتاب جديد عنوانه "عابرة هي الأيام" اختار لجزئه الأول عنوان " في مهبّ رياح السّياسة ".