دورات تدريبيّة.. والإعلام على حاله!! عشر السنوات من التدريب وصقل المهارات لم تؤمن لنا منتجا إعلاميا عميق التحليل إبداعي الإخراج. فقد بقي المنتج الإعلامي رهين ثقافة "البوز" في جزء كبير منه، إذ غابت على التناول الإعلامي للصحافيين التقارير المرئية والمكتوبة التي تخوض في المواضيع الحارقة، ولئن كانت بعض الأمثلة قد أبدع منتجوها في الانصهار في صحافة الجودة إلا أن السواد الأعظم من منتجنا الصحافي بقي سطحيا لا يرقى لانتظارات المتلقي ولا يتماشى مع ما اكتسبه الصحافيون من مهارات ولا هو أيضا يعبر عن استفادة أهل القطاع من منسوب حرية التعبير الذي توفّر للصحافيين عقدا من الزمن بعد الثورة. ضخ برنامج دعم الإعلام الذي موله الاتحاد الأوروبي لدعم وسائل الإعلام في تونس ما يقارب ثلاثين مليار دينار لتحسين مهارات الصحافيين في تونس، ودفعت منظمات تدريبية عالمية أخرى ألمانية وأمريكية وبريطانية وغيرها أكثر من أضعاف هذا المبلغ. على امتداد كل هذه السنوات جبت جهات البلاد شبرا شبرا في دورات تدريبة شملت عددا كبيرا من الصحافيين والصحافيات داخل المؤسسات الإعلامية العمومية والخاصة وكذلك الجمعياتية. مئات الصحافيين استفادوا من تدريب في شتى الاختصاصات ومنهم من استطاع أن يجعل له من التدريب بابا جديدا للإبداع والتجديد. عديد البرامج الموجهة للصحافيين والصحافيات وجهت لتونس من مختلف المنظمات والممولين بعد الثورة وضخت لدعم الانتقال الإعلامي بعد التحول الذي شهدته وسائل الإعلام وتحررها من الرقابة المسبقة. وفي الذكرى العالمية لحرية الصحافة جدير بنا أن نطرح السؤال الحقيقي هل استفاد المشهد الإعلامي حقا من برامج التدريب المتعاقبة في تونس؟ وهل تغير المشهد الإعلامي واستفاد بما تدفق من آلاف الدولارات التي تم ضخها لمؤسسات تونسية مختصة في مجال الإعلام؟ هل تطورت فعلا مهارات الصحافيين بفضل برامج التدريب الإعلامي؟ ما الذي تحقق من نقلة في أداء الصحافيين؟ وهل يمكن أن نتحدث اليوم عن مسار حقيقي لإصلاح الإعلام في تونس؟ وجوابا على كل هذه الأسئلة نقول انه قد يكون الإعلام والإعلاميون والصحافيون استفادوا من صقل مهاراتهم إلا أن المتأمّل في المشهد الإعلامي يدرك سريعا أن تلك المهارات لم توظّف بالشكل الكافي داخل هيئاتنا التحريرية إذ مازال الشرخ واضحا بين الجمهور وإعلامه لاسيما الإعلام المرئي. غير انه رغم ما حصل للصحافيين من معارف واطلاعهم على مدارس دولية في مجال الإعلام إلا أن ما بقي مسيطرا على إعلامنا لاسيما في ذروة الفترات الانتخابية هو تلك المنابر التي كان يغرّد فيها ما يعرف بالمعلقين (الكرونيكور) في سعي واضح لتوجيه الرأي العام بعيدا عن المشاغل الحقيقية للمواطن التونسي. وقد ساهم التدريب في صقل المهارات وتأسست خلالها هيئات تحرير داخل وسائل إعلامنا وتمت صياغة مواثيق تحريرية ومهنية ومدونات سلوك داخل غرف الأخبار في محاولة للتعديل الذاتي والقانوني. إلا انه رغم كل تلك المجهودات الاستثنائية يمكن معاينة تحول مؤسساتنا الإعلامية إلى حلبة صراعات تصفية حسابات سياسية في استفادة واضحة من حرية التعبير الى حد انقلبت فيه الحرية الى فوضى إعلامية زادت من توسيع الفجوة بين الجمهور المتلقي ووسائل الإعلام باختلافها ورغم ما اكتسبه الصحافيون من معارف لم نشهد له الأثر الكبير في المنتج الإعلامي مع بعض الاستثناءات التي انغمست في صحافة الجودة وأبدعت في إخراج منتوج إعلامي يواكب روح العصر في مجال الإعلام. مواثيق ومدونات وتدريبات ولكن المضامين الإعلامية في جلها بقيت مفرغة من اعتماد أنماط صحافية جديدة عميقة المحتوى مثل صحافة الاستقصاء والتحقيق وصحافة التفسير والتحليل . لم تتطور هذه المضامين لتدخل عالم إنتاج الوثائقيات ولم تتم الاستفادة من حرية التعبير ليغوص الصحافيون في أشكال وأجناس صحافية إبداعية تجعل المنتج البصري جاذبا شكلا ومضمونا. بقي جل منتجنا الإعلامي مقتصرا على مقالات وتقارير تعتمد على البيانات والبلاغات والمضمون الخبري الجاف بل يعمد بعض الصحافيين إلى النسخ والإلصاق لا غير. بل انه لفرط اعتماد النسخ والإلصاق فان مؤسسات إعلامية كبرى وقعت في التضليل بالنظر إلى عدم اعتماد آليات التحري والتوجه نحو مصادر من اجل التثبت. اذكر أننا كنا في إحدى الدورات التدريبية نتحدث عن آليات صحافة التحري فبرزت على السطح أخبار مفادها أن تونسيات ممنوعات من امتطاء الخطوط الإماراتية. حادثة رافقتها أخبار تقدّم احد الأشخاص يدعي انه قائد طائرة رفض سياقة الطائرة من الصين في اتجاه دبي تضامنا منه مع المرأة التونسية الممنوعة من ركوب الخطوط الإماراتية. انتشرت قصة الشاب قائد الطائرة في كل مواقع المؤسسات الإعلامية عمومية وخاصة. أردنا أن نقيم المنشورات فوجدنا مقالا واحدا تم نسخه من موقع لاخر ليتضح بعد ذلك أن قصة الشاب كذبة وإشاعة وأن كل وسائل الإعلام روجت للإشاعة بسبب ثقافة انسخ والصق. هذا المثال يكشف فعلا أن هناك كسلا واضحا من بعض الصحافيين لبذل مجهود اكبر لتطوير المحتوى الإعلامي بما يتناسب مع أخلاقيات العمل الصحافي. فقد تخلى بعض الصحافيين رغم إدراكهم لمهارات العمل الصحافي عن بذل الجهد لصياغة منتج إعلامي ثري المضمون جيد الإخراج فيه إبداع الإنجاز. سنوات من التدريب لم تؤت أكلها إما لتقصير الصحافي في حد ذاته لبذل جهد أكبر في الإنتاج والإنتاجية أو لعدم وجود مؤسسات تستثمر في صحافة الجودة سبيلا لدعم حرية التعبير. والآن ونحن نستعد لاستقبال شوط جديد من برنامج دعم الاتحاد الأوروبي في تونس نحتاج فعلا أن تكون مثل هذه البرامج التدريبية قادرة على النفاذ إلى داخل هيئات التحرير في مؤسساتنا الإعلامية لعلها بالمساعدة على الإنتاج تحقق النقلة التي لم تستوف أهدافها طوال برامج التدريب خلال العقد الأخير. اعتقد اعتقادا راسخا أن مثل هذه التدريبات لن يكون لها اثر ما لم يحرص الصحافي الذي يتلقى التدريب على بذل جهد في تنزيل معارفه داخل ما ينتجه من محتوي كما أن النتيجة ستكون مبتورة ما لم يجد الصحافي أيضا إطارا يشجع على الإبداع ويمنحه وسائل النجاح.