لا يمكن فهم الانسحاب الجزئي الروسي من سوريا إلا وفق منظارين، أولهما سياسي والآخر استراتيجي ويتعلق بما يطبخ في مطبخ جنيف السياسي حيث المفاوضات جارية على قدم وساق للوصول إلى صيغة ومسار لاحلال السلام في سوريا وفق قاعدة "لا رابح ولا خاسر" وذلك للعمل على ضمان كل المصالح الممكنة بين الأطراف المؤثرة في الملف السوري، والتي بدأت ملامحها تظهر في تصريحات المسؤولين السوريين والمعارضة وخاصة في التفاهم الأمريكي والروسي ومن ورائه الإيراني. ولعل ما أعلن عنه الرئيس الروسي فلادمير بوتين يدخل ضمن هذه التفاهمات والتي ستطبع مفاوضات "جنيف 3" التي تشرف عليها الأممالمتحدة والتي استطاعت فرض وقف لإطلاق نار بين مختلف الفصائل المعارضة السورية المعترف بها من الطرفين والنظام السوري والفاعلين في الملف السوري. وتأتي هذه الخطوة الروسية في وقت بدأت فيه منذ أمس الاثنين جولة جديدة من المفاوضات بين الفرقاء السوريين في جنيف برعاية الأممالمتحدة، وبعد تصريحات تحذيرية من المبعوث الأممي ب"أن العودة للقتال هي الخطة الوحيدة البديلة عن المفاوضات". ان كل هذه المعطيات لا يمكن في الأخير إلا أن تفضي إلى جملة من الاستنتاجات، والتي يمكن تلخيصها في النقاط التالية: أولا/ هو ضغط على الأسد للقبول بمخرجات الحل التي بدأت تظهر ملامحها في التفاهمات بين واشنطنوموسكو ثانيا/ هناك معادلة تطبخ اليوم لإيجاد حل سياسي مستميت وهو فترة انتقالية لمدة 6 أشهر يكون الأسد مشاركا فيها وتشكيل حكومة انتقالية تشارك فيها المعارضة والنظام ويكون لرئيس الوزراء فيها صلاحيات كبيرة هذا ما يبدو أن روسيا موافقة عليه ضمنيا والولايات المتحدة كذلك، ولكن النظام السوري غير موافق على هذه الصيغة ويطالب بثلاثة ارباع السلطة في اي حل قادم بما فيها استمرار الأسد وهو ما لا يبدو أنه يوفر قاعدة تفاهم مع المعارضة في اي مؤتمر قادم في جنيف أو غيرها وهذا ما لم تستسغه موسكو وأرادت الضغط على الأسد ثالثا/ روسيا لم تنسحب بالكامل بل أبقت على قاعدتها البحرية في طرطوس وكذلك قوات أخرى، كما وفرت أسلحة تكتيكية متطورة في سوريا وأبرزها منظومة اس 400 وهو ما يعني أن بامكانها التدخل سريعا في المنطقة وفي اي وقت ممكن رابعا/ ان الضغط الروسي على الأسد وكذلك ما طرحته ايران من موقف اليوم حول الانسحاب الجزئي الروسي من سوريا والذي أشارت فيه على لسان وزير خارجيتها محمد جواد ظريف إنه يجب النظر إلى خطة سحب روسيا لقواتها من سورية، كإشارة إيجابية لوقف إطلاق النار، يعني ضمنيا أن هناك معادلة وصل اليها ابرز الأطراف والمبنية على التالي خروج الأسد من السلطة مقابل الحفاظ على النظام والمصالح الروسية والايرانية في سوريا.. بما معنى أن النظام السوري سيفقد رأسه لكن لن يفقد جسده سادسا/ النقطة الأكبر في هذا كله أن الجميع اتفقوا على محاربة التنظيمات الارهابية مما يعني أن هناك اعادة صياغة للمشهد الحربي في سوريا سابعا/ الكلام اليوم على الدور الروسي في المفاوضات وعلى الحرب الديبلوماسية خاصة مع الرفض المبطن الذي تبديه السعودية وتركيا لمثل صيغة المعادلة المفترضة للوصول الى سلام وهذا ما يسبب احراجا للولايات المتحدة والتي تعمل على تلافيه من خلال الضغط وتحميلها مسؤولية انتشار الارهاب في المنطقة مثل الذي وجهه أوباما في حواره مع مجلة "أطلانتس" الأخير والذي قابله النظام السعودي باستهجان. ان مخرجات الوضع السوري اليوم مرتبطة أساسا بمدى قبول دمشق للضغط المسلط عليها من حلفائها قبل أعدائها للقبول بمعادلة قسمة طاولة المفاوضات، وتأسيس مسار لحل سياسي طرحته الأممالمتحدة ويراعى فيه مصالح الأطراف المتصارعة وخاصة بعد التوقيع على الاتفاق النووي بين ايران وأمريكا وبوساطة روسية، وهذا يعني أن التقارب في مواقف أبرز الفاعلين في الملف السوري بدأت تتبلور، خاصة وأن الجميع متوجس من استمرار الوضع كما هو عليه في الشرق الأوسط، والدخول في نفق جديد قد لا يخدم جميع الأطراف.