لا شك أن انتخاب الرئيس الفرنسي الجديد إيمانويل ماكرون شكّل صدمة داخل مشهد سياسي يحتكره الاشتراكيون والجمهوريون لعقود عدة، غير أن تبعات انتخاب الرئيس الشاب قد تتجاوز بلاده لتؤثر – بطريقة أو بأخرى – في الواقع السياسي لبلدان شمال افريقيا عموما والتي ما زال البعض يعتبرها الحديقة الخلفية لفرنسا، وربما هذا ما يفسّر الاهتمام الكبير (الرسمي والإعلامي) في تونس بالانتخابات الفرنسية وتهافت معظم السياسيين على تهنئة الرئيس الجديد، معبرين عن أملهم في فتح «صفحة جديدة» من العلاقات بين البلدين. ويتفق معظم السياسيين والمحللين التونسيين على الإشادة بصعود الشاب المثقف القادم من التكنوقراط إلى سدة الحكم في فرنسا، غير أنهم يختلفون حول إمكانية تطبيق «الوصفة الفرنسية» في بلادهم، فثمة من يدعو إلى ضرورة تجديد الطبقة السياسية «الهرمة» في تونس، ومن يرى أن ماكرون لا يمثل النموذج الناجح في تونس على اعتبار أن الأخيرة جربت حكم التكنوقراط سابقا (عبر حكومة مهدي جمعة) ولم تحقق نتائج جيدة، وثالث يرى أن أي تجربة جديدة في الحكم يجب أن تستند إلى عوامل داخلية ولا تسعى لجلب «حلول جاهزة» ومحاولة إسقاطها على الواقع. وتسلّم إيمانويل ماكرون (أصغر رئيس في تاريخ فرنسا)، أمس الأحد، مهامه الرئاسية من نظيره المنتهية ولايته فرانسوا اولاند، وذلك بعد أسبوع من فوزه على منافسته زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان. ويرى الجيلاني الهمامي النائب والقيادي في «الجبهة الشعبية» أن نتائج الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية الفرنسية والتي انتهت بفوز ماكرون «لم تشكل أي مفاجأة، ففوز ماكرون كان متوقعاً، على اعتبار أن القوى التي فشلت في الدور الأول من الطبيعي أن تصطف ضد لوبان، ومع ذلك يمكن القول إن اليمين الفرنسي الذي تمثله لوبان أحرز تقدماً (شعبية) كبيراً في الرأي العام الفرنسي، رغم أنه لم يفز في الرئاسة في نهاية الأمر». لكنه يؤكد في تصريح خاص ل«القدس العربي» أن تونس «ليست في حاجة إلى نمط إيمانويل ماكرون، لأنه يشكل النمط التقليدي في فرنسا حتى وإن اتخذ اليوم بعض الميزات الخاصة كعنصر الشباب وكونه من اوساط التكنوقراط، ولكنه في النهاية مدعوم من قبل مؤسسات اقتصادية كبيرة ومن الرأسمال الفرنسي الذي كان – بشكل أو بآخر- لديه صلة بالحكم في فرنسا في الفترات السابقة، والذي ساهم إلى حد لآن في وضع فرنسا ضمن أوضاع اقتصادية سيئة، ولا أعتقد أن تونس في حاجة إلى أن تتجه بهذا الاتجاه (انتخاب رئيس قادم من التكنوقراط) نظراً لخصوصية الأزمة فيها ولذلك أؤكد مجدداً أن ماكرون لا يمثل النموذج الناجح بالنسبة لتونس». وحول تأييده لوجود شخصية سياسية بالضرورة في قصر قرطاج مستقبلاً، اعتماداً على رفضه نموذج ماكرون، يقول الهمامي: «هذا الأمر متروك لانتخابات 2019، وإلى ذلك الوقت ستشهد تونس تطورات سياسية كبيرة». وتحاول تونس مؤخراً تجديد طبقتها السياسية الهرمة، وقد شهدت خطوات «خجولة» حتى الآن في هذا المجال تمثلت أساساً في انتخاب عدد من الوجوه الشابة في البرلمان فضلاً عن تشكيل حكومة يقودها رئيس في بداية الاربعينيات وتضم بين أعضائها عدداً من الشباب. ويرى زبير الشهودي القيادي وعضو مجلس شورى حركة «النهضة» أن تونس «تحتاج إلى «تشبيب» (جعلها أكثر شباب) طبقتها السياسية وكذلك إلى تكريس الثقافة الديمقراطية وهذا أمر لا شك ولا اختلاف فيه، ولكن ما زالت هناك مسافة كبيرة بين التجربة التونسية ونظيرتها الفرنسية، وبالتالي لا نستطيع الحديث عن أن المزاج العام في تونس سيذهب باتجاه اختيار سياسيين غير واضحي الأرصدة السياسية (الخلفية الحزبية)، لكن يبقى للتونسيين ثقافة متقدمة ويتابعون الأحداث الدولية ويتأثرون بها، والمجتمع التونسي قريب من المجتمع الفرنسي في اتجاه المحافظة، بمعنى أنه محافظ ليس بالمعنى الديني وإنما بالمعنى الثقافي والأقرب إلى الهدوء وعدم المغامرة» ويضيف: «الطبقة السياسية الشابة في تونس لم تكتسب نوعاً من الرمزية والحضور الفاعل والواضح، فما زال نفس الجيل تقريبا (جيل ما بين 55 إلى حدود 75 عاما) يحكمنا، وأعتقد أننا في تونس لم نستطع حتى الآن إيجاد نخبة مؤثّرة من جيل الأربعينيات أي الجيل الذي يمكن اعتباره جيل الثورة بسبب طبيعة الانتكاسات في مساره المهني والتعليمي بحكم الاستبداد طيلة 23 سنة، كما أن الفرص التي تأتي للفرد في تونس في سن الثلاثينات قليلة ونادرة جدا، فالشاب التونسي لا يستطيع الشروع في بناء مستوى مهني ومعرفي مستقر إلا في حدود بداية الأربعينيات، وبالتالي ذروته (المهنية والمعرفية) ستكون في الخمسينيات، وهذا مؤسف ولكنه حقيقة، ولذلك أن تحدث في تونس مثل هذه الأشياء (رئيس شاب) هو أمر مطلوب وهو رسالة طبيعية لشباب صنع الثورة وهو الأجدر لقيادتها». ومنذ الاستقلال، تعاقب على رئاسة تونس، خمسة رؤساء تتراوح أعمارهم بين خمسين وثمانين عاما، حيث بدأ كل من الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي الحكم في سن الخمسين، غير أن الأول استمر في الحكم ثلاثة عقود فيما امتد حكم الثاني حوالي ربع قرن، فيما تسلم فؤاد المبزع الحكم بشكل مؤقت لعدة أشهر في سن 78 وخلفه منصف المرزوقي في سن 66 لثلاث سنوات قبل أن يخسر السباق الانتخابي أمام منافسه الرئيس الحالي الباجي قائد السبسي الذي بدأ الحكم في سن الثامنة والثمانين. ويرى قيس سعيد الخبير الدستوري والمحلل السياسي أن نتائج الانتخابات الفرنسية ستُحدث تأثيراً نسبياً على السياسة التونسية، و»لكن لفرنسا تاريخها ومؤسساتها وتصوراتها وتقليدها المختلف، وعموما ما زالت الأوضاع فيها قابلة للتعقيد أكثر بعد الانتخابات التشريعية (البرلمانية) المُقبلة، بمعنى أن التجديد فيها ما زال نسبيا في ظل مؤسسات الجمهورية الخامسة القائمة حاليا». ويضيف ل«القدس العربي»: «تونس – بالتأكيد – في حاجة إلى تجديد لما يُسمى بالنخبة السياسية، وفي الواقع انتهى عهد النخبة السياسية التقليدية، يعني الشباب في كل مناطق الجمهورية لم تعد تخفى عليهم خافية، فهم اليوم يعرفون كل شيء تقريبا عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي، ونحن في حاجة إلى بناء تونسي حقيقي ينطلق من مطالب التونسيين». ويوضح أكثر بقوله: «نحن في تونس في حاجة إلى حلول تونسية تنطلق من مطالبنا وشعاراتنا وإمكانياتنا التونسية، وفي ظل سيادة حقيقية للتونسيين على وطنهم واختيارهم من دون تبعية لأي كان أو اقتداء به، وبالتالي رغم التأثير الممكن لهذا التجديد الذي سيقع في الطبقة الفرنسية بعد الانتخابات، ولكن لا يجب أن نبحث عن حدود تأتينا من وراء البحار، بل يجب أن ننطلق من معطياتنا وإرادتنا وسيادتنا، لأن الحفاظ على الكرامة هو المقدمة الأولى لسيادة الوطن والمواطنين فيه». وكان عدد من السياسيين التونسيين عبّروا قبل أيام عن «تفاؤلهم» بانتخاب إيمانويل ماكرون رئيساً جديداً لفرنسا على حساب زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان، ودعوا إلى فتح آفاق جديدة للتعاون بين البلدين وخاصة في ما يتعلق بالمواضيع الاقتصادية ومكافحة الإرهاب واستقرار الوضع في ليبيا. (القدس العربي)