الإصدار الجديد لوزير الثقافة الأسبق الاديب والمفكر البشير بن سلامة هو رواية " الفتنة " أو قل حكايات حول موضوع الفتن التي يقول عنها أنها هي سبب كل ما حصل ويحصل لنا اليوم من خيبات وتراجعات وطغيان مشاعر اليأس والإحباط لدى عامة الناس . هي رواية طريفة توخي فيها صاحبها أسلوبا ذكيا يشد إليه القارئ وركز فيها على قضية خلافية شغلت المسلمين قديما وحديثا فالحديث عن الفتنة التي بسببها تفرق المسلمون بعد أن كانوا جماعة واحدة هو حديث قديم جديد ولعل أول شرخ في الجسم الإسلامي كان بسبب ما أصطلح على تسميته في كتب التاريخ بالفتنة الكبرى وما حصل بعد مقتل الخليفة عثمان بن عفان من انقسام وتقاتل بين الموالين لعلي والموالين لمعاوية وما تبع ذلك من موقعة الجمل التي حضرتها أم المؤمنين عائشة التي أرادت أن يكون لها رأي في السياسة وما تلاها من رفع المصاحف و اللجوء الى التحكيم وخروج عدد من المسلمين الذين لم يقلبوا بالتحكيم وسمو بالخوارج وما حصل لهم من قتل على يدي جيش الامام علي وهي فتنة هزت الكيان الإسلامي وتداعياتها لا زالت إلى اليوم باقية بين الشيعة والسنة. وقد ظهر في السنوات الأخيرة كتاب مهم عن الفتنة الثانية لصاحبته الكاتبة بثيتة بن حسين وهي فتنة زادة من انقسام المسلمين دارت أحداثها بين يزيد بن معاوية والحسين بن علي وما حصل لهذا الأخير من قتل وتنكيل به وبعائلته وقطع للرؤوس عمق الخلاف وأوغر الصدور وأنهى الصرح الذي بناه المسلمون الأوائل . عن هذه الفتنة الوخيمة تحدثت عنها راوية البشير بن سلامة الأخيرة و لكنها فتنة مختلفة عما دار في تاريخنا الإسلامي القديم لتتناول فتنة شبيهة بها سميت بالفتنة الباشية الحسينية وبعدها جاءت الفتنة اليوسفية البورقيبية وهما فتنتان أثرتا بقوة في كل تاريخنا المعاصر وخاصة الفتنة الأخيرة التي تواصل أثرها حتى بعد الثورة التي يعدها الكاتب هي الأخرى فتنة جديدة زادت من تشظي الشعب. يبدأ البشير بن سلامة روايته الفتنة بعودة المولدي المريش بطل الراوية إلى الحياة بعد أن أعلن موته وبعد أن حمل نعشه إلي المقبرة لدفنه تصحبه كلبته " ونيسة " ولكنه في الطريق استفاق وانتصب قائما ومن هذه اللحظة التي عاد فيها المولدي إلى الحياة تنطلق الأحداث بحوار طويل يدور بين البطل وكلبته التي انطقها واستنطقها المؤلف وهو حوار عاد فيه البشير بن سلامة إلى أحداث كثيرة قديمة وأخرى معاصرة وأخرى تعود إلى الحقبة الاستعمارية وبداية التأسيس للدولة التونسية وأحداث أخرى تناول فيها ما حصل في زمن تأسيس الدولة الحسينية على يد الحسن بن علي سنة 1702 م وخلال كل هذه الأحداث يقع التركيز على ما حصل من فتنة بين الباي حسين والباشا علي من مؤامرات على الحكم وما حصل بين صالح بن يوسف و الزعيم بورقيبة من صراع مماثل على السلطة وعلى من يحكم البلاد بعد الاستقلال وفي كلتا الفتنتين ينقسم الشعب بين مؤيد لهذا ومنتصر لذاك. ما يمكن قوله حول هذه البداية هو أنها بداية مقصودة فالموت له رمزية ودلالة في هذه الرواية على أن الإنسان العربي والأمة العربية هي منذ زمن طويل في موت وغيبوبة وأن واقع الأمة اليوم في وضع الموت ولكنه ليس بالموت الحقيقي الذي يغيب الإنسان نهائيا دون رجعة وإنما الموت هنا هو خروج من عالم والدخول في عالم آخر فواقعنا اليوم يشبه حالة الموت الذي عايشه المولدي المريش لا هو في الدنيا ولا هو في الآخرة . يقول البشير بن سلامة على لسان بطل الرواية " كنت أحسبهم من زمن غير زمني رأيت نفسي كأني قد رجعت إلى أوائل استقلال بلادي حيث الفتنة ضاربة أطنابها " بهذه العبارة الرشيقة يصور بن سلامة حال الأمة العربية وحال الإنسان العربي ومنه الإنسان التونسي وهو واقع الموت الذي يسبق الإحياء من جديد وكأن النهوض من جديد يحتاج إلى مرحلة الموت الوقتي الذي يحتاج إلى غياب وتوقف عن الحياة من أجل العودة إلى التاريخ والموت الذي يقصده المؤلف هو غفوة ضرورية من أجل أن يتحقق الوعي والعودة من جديد للتاريخ يقول " ميتتي كانت في الواقع غفوة اكتشفت فيها عشرات السنين من تاريخ شعبي وبخصوص هذه الفتنة إنني أصبحت أتصور الدنيا الماضية والحاضرة كأنها شريط وثائقي يبث أمامي بلا انقطاع ألم تشعر أنني تغيرت بعد ميتتي هذه " يعتبر البشير بن سلامة أن عملية الاحياء من جديد التي تحتاجها أمتنا تتطلب المرور من مرحلة الصدمة ومرحلة الغفوة ومرحلة الموت الوقتي الذي تجسده الفتن المتتالية وهي وضعيات من المفروض أن توقظ الوعي المفقود بضرورة النهوض فبالرغم من أن الكاتب لا ينتصر إلي أي من الفاعلين في الفتن المؤثرة في تاريخنا ولا ينتصر إلى ما فعله على باشا ولا حسين باي ولا إلى بورقيبة ولا إلى صالح بن يوسف فهو يعتبر الجميع قد أساء إلى هذا البلد الطيب وخلف ندوبا وسلبيات ما زلنا نكررها إلى اليوم. إن عملية النهوض الجديد ومحاولة الرجوع إلى الفعل الحضاري واستعادة دور القيادة والشهود على الانسانية إلى جانب كونه يستفيد من فترات التراجع والغفوة القصيرة والتي يجب أن لا تطول فهي تحتاج إلى رؤية حضارية جديدة تقوم على موقف من التراث القديم الذي يسميه الطاهر لبيب التاريخ العبء المعطل ويطالب بالقطع معه لأن جميع هذا الماضي في نظره سيء ولا يصلح لنا اليوم إلا أن البشير بن سلامة له رأي آخر يقوم على نوع من الحيرة الوجودية الضرورية في محاولة العيش في الزمن الحاضر من دون العودة إلى الماضي ولكنه يقر في الأخير أننا لا نستطيع أن ننهض من جديد وأن نعيد بناء الكيان من دون هذا الماضي ولكن بأي فهم وبأي طريقة ؟ إنه يقر أن عملية التخلص من التاريخ والثقافة والماضي صعب ومكلف لذلك نراه لا يحسم القضية ويقر بأننا " كلنا مشدودون الى ماضينا ونريد أن نتخلص منه لنعيش حياتنا ولكن كيف يمكن التخلص من تبعات الذاكرة " وهنا يطرح بن سلامة فكرة مركزية في عملية التعامل مع التراث وإعادة النظر في الموروث الثقافي وخاصة الديني منه الذي يراه أدونيس لا فائدة منه ويجب التخلص منه كما فعلت أوروبا في نهضتها هذه الفكرة هي الذاكرة التاريخية والذاكرة الثقافية وأهميتها في الانطلاق نحو المستقبل وهو بذلك ينحى منحا مغايرا لأصحاب دعوات القطيعة الكاملة مع التاريخ والتراث ويشير إلى علاقة الذاكرة بالهوية والذاتية والشخصية ليفرض السؤال الحرج كيف يمكن للشعوب أن تبني حاضرا ومستقبلا من دون ذاكرة ومن دون تذكّر ؟ وهل يمكن أن تكون لنا مكانة من جديد في حركة التاريخ من دون ذاكرة خاصة بنا تميزنا وتخصنا حتى لا نذوب في ذاكرة الآخرين وحتى لا نستوعب في ثقافة الآخر ؟ إن رواية البشير بن سلامة الأخيرة حول حكايات الفتنة هي رواية فريدة في ميدانها ومتفردة في موضوعها وفريدة في طريقة طرحها وما يلفت النظر إليها أنها جنس جديد من الكتابة التي تتبع طريقة السرد غير الخطي للأحداث وتقوم على تطور للوقائع وفق أسلوب الاسترجاع والاستباق فبناء الرواية يقوم على ارتدادات كثيرة بين أزمنة مختلفة يخضع هذا البناء إلى منطق تبناه السارد وفق رؤية قد لا تتطابق مع الواقع الخطي ولكنها رؤية مقبولة تجعل القاري يعيش التاريخ والفكر والثقافة بطريقة مضطربة ولكنها محفزة إلى التفكير والتفكر فعندما تكون الرمزية - الكلب مثلا - في تجسيم منظومة القيم وعندما تكون العودة للمسعدي في سده أو في مولد نسيانه أو في حدث أبو هريرة قال عودة استطرادية لخدمة السرد و تقحم في ثنايا الحكاية عن الفتن يكون هذا النوع من التوظيف مفيدا في عملية توليد الأفكار والتعامل مع الأحداث والوقائع ويفتح زوايا نظر مختلفة وهذا الأسلوب في الكتابة هو الذي جعل رواية البشير بن سلامة تعد من قبيل الرواية التاريخية أو الرواية الفلسفية الذهنية أو الرواية الفكرية الإشكالية فضلا عن كونها أدبا جميلا.