ندوة منتدى الفكر التونسي الذي تشرف عليه جمعية أحباء المكتبة المعلوماتية بأريانة بالاشتراك مع المندوبية الجهوية للشؤون الثقافية بالولاية التي التأمت ليلة يوم الأربعاء 13 جوان الجاري كانت ندوة مثيرة ومحيرة وحركت السواكن وهزت القناعات وفرضت مراجعة كل ما كان يعتقد حول هوية اليهود التونسيين الذين عاشوا في ربوعنا وأدعوا أنهم تونسيون ودفعت إلى إعادة طرح السؤال حول حقيقة تونسية الجالية اليهودية التي سكنت البلاد وحقيقة ارتباط الأقلية اليهودية التي عايشت المرحلة الاستعمارية بمسألة المواطنة وارتباطها بالمشاغل والقضايا التونسية وانخراطها في الجهد التحرري في مقاومة المحتل الفرنسي وفي كلمة طرحت هذه الندوة سؤالا : هل يعد اليهود الذين تواجدوا في تونس تونسيين بالمفهوم المواطني للكلمة ؟ وسؤال ما الذي يجعل الفرد تونسيا في تونس ؟ و هل تكفي الجنسية و التوا جد على رقعة من الجغرافية من دون الايمان بالمصير المشترك ؟ في هذه الندوة التي أثثها الأستاذ محمد العربي السنوسي أستاذ التاريخ المعاصر والمتخصص في الفترة العثمانية في تونس و كذلك المهتم والمنشغل بالتواجد اليهودي في بلادنا تناول فيها تقديم مشروعه الفكري الذي يشتغل عليه منذ سنوات و لم يكمله بعد والمتمثل في اهتمامه بالصحافة العبرية في تونس خلال الفترة الممتدة بين سنة 1883 إلى سنة 1963 حيث قام برصد شامل لكل المشهد الاعلامي اليهودي في مجال الصحافة المكتوبة خلال هذه الحقبة وأحصى كل العناوين التي كانت تصدر باللغة العبرية فهو من هذه الناجية قد حفظ الذاكرة الوطنية في جزئها المتعلق بالجالية اليهودية المعتبرة إحدى مكونات الشعب التونسي وكذلك بالصحافة العبرية التي تعد هي الأخرى جزءا من الصحافة الوطنية على اعتبار وأن مؤسسيها ومن كتب فها يعتبرون مواطنين تونسيين يحملون جنسية البلاد حتى وأن كانوا مختلفين من حيث الديانة فالصحافة العبرية خلال أواخر القرن التاسع عشر وأثناء القرن العشرين قد أثرت الساحة الاعلامية والصحافة المكتوبة بعدة عناوين ميزت تلك الحقبة من تاريخ تونس المعاصر. تناول المحاضر بالتحليل البدايات الأولى لهذا النوع من الصحافة التي ظهرت في تونس وكانت ناطقة باللغة العبرية فذكر أن أول صحيفة عبرية صدرت هي " المبشر " في سنة 1883 ويوجد في الأرشيف الوطني ما يزيد عن 60 عنوانا للصحافة العبرية لكنها تفتقد للفهرسة والتبويب والكثير منها غير مكتمل وتنقصه بعض الأعداد ويتطلب قراءتها وترجمتها حتى نقف على ملامح الفكر اليهودي في تلك الفترة و نتبين ملامح المجتمع اليهودي المصغر من مختلف القضايا المجتمعية ونتعرف على مضمون هذه الصحافة وما هي القضايا التي كانت تشغلها وتهتم بها وهذا الجهد هو اليوم مفقود في الجامعة التونسية التي لا تتوفر على تخصص في الصحافة العبرية قبل الاستعمار الفرنسي وبعده. ميزة هذه الصحافة أنها كانت غزيرة ومتعددة ولكنها غير مستقرة في النشر إذ سرعان ما يظهر عنوان حتى يختفي ليترك مكانه إلى عنوان جديد كما أن ما يميز هذا النوع من الصحافة هو أنها موجهة إلى جمهور صغير وإلى قراء قليلي العدد باعتبار أن عدد اليهود في وتونس لم يكن كبيرا وهو في حدود الخمسين ألفا في تلك الفترة واتجاه أغلبهم نحو الصحافة الناطقة بالفرنسية ومع ذلك ظلت هذه الصحف ثابتة في الزمن وكان أصحابها يعتقدون أن العمل في مجال الصحافة هو من قبيل الواجب الديني لذلك كانوا يحثون اليهود على قلتهم على المثابرة على مطالعة الصحف العبرية وإغرائهم بالعناوين والقضايا التي تطرحها وبلغة الارقام فقد صدر ما بين 1904 وسنة 1914 ثلاثة وعشرين (23) عنوانا وبين سنة 1920 وسنة 1921 أحد عشر (11) عنوانا ولكن كل هذه العناوين اختفت بداية من الحرب العالمية الثانية ولم يصمد منها تقريبا إلا صحيفة الصباح التي واظبت على الصدور إلى حدود سنة 1940. إن المفيد الذي نخرج به من هذه الندوة إلى جانب هذا الجرد الهام للعناوين الكثيرة التي كانت تصدر بها الصحابة العبرية في بلادنا وكذلك حصر عددها وتاريخ ظهورها واختفائها وأسماء أصحابها، المفيد هو المحتوى والمضمون الذي كان يطرح في هذه الصحافة ونوعية القضايا التي كانت تتناولها وهذا هو المهم حتى نعرف كيف كان يفكر يهود تونس في فترة صعبة من تاريخنا المعاصر ؟ وكيف كان يعيش هذا المكون من الشعب التونسي الذي دافع عنه الكثيرون من منطلق أنهم مواطنون تونسيون ومن منطلق أنهم تونسيون لا يختلفون في شيء عن باقي أفراد الشعب التونسي لهم ما لنا وعليهم ما علينا. فمن خلال ما كان يكتب ويطرح من قضايا في هذه الصحافة العبرية نقف على مسألة خطيرة للغاية وهي أن مضنون هذه الصحافة ليس له علاقة لا من بعيد ولا من قريب بمشاغل التونسيين وكانت كتاباتها غير مهتمة بما يدور في المجتمع من شواغل وقضايا حارقة بل هي لم تهتم أصلا بالقضية التونسية وبما يشغل بال الشعب من احتلال ومن توق إلى التحرر الوطني. المفاجأة التي كشفت عنها هذه الندوة هي أن يهود تونس من الذين يعتبرون أنفسهم مواطنين تونسيين ومن خلال صحافتهم العبرية لم يكونوا مهتمين بالقضايا الوطنية ولم يكن يعنيهم في شيء الاحتلال الفرنسي ولا تشغلهم قضية التحرر الوطني من الاستعمار بل أن كل ما كانوا يطرحونه من مواضيع وقضيا له علاقة بشأنهم اليهودي ومشاكلهم الحياتية ولم يكونوا ينقلون اخبار الحركة الوطنية وما يدور في الساحة السياسية بل على العكس من ذلك كانت الصحافة العبرية تواكب باستمرار أخبار الحركة الصهيونية العالمية وتغطي أنشطة الجمعيات الصهيونية سواء في بلادنا أو خارجها ( وفي هذا السياق يمكن مراجعة كتاب الهادي التيمومي : النشاط الصهيوني بتونس بين 1897 و 1948 ) و لم يكن معظمها منتقدا لنظام الحماية ولا اتخذ منه موقفا بل كانت هذه الصحافة صورة من صور التعاون الكبير مع المستعمر ولم تكن مساندة ولا موالية للمقاومة الوطنية .. كانت هذه الصحافة لا تخفي ولاءها للحركة الصهيونية وهي غير مترددة في تمني العودة يوما إلى أرض الميعاد وأرض الأجداد إلى القدس. كان ولاء يهود تونس من خلال ما كان يكتب في صحافتهم العبرية ملتبسا حيث كانوا يصرحون علنا بولائهم للألوان الثلاثة ويعنون بها ألوان العلم الفرنسي " الأحمر والأزرق والأبيض " و يعتبرون أن فرنسا قد جلبت لهم المساواة و العدالة والحرية وبالتوازي كانوا يعترفون بدور الباي في حمايتهم وما يوفره لهم من عيش وأمن ( شعارهم الله ينصر سيدنا ) كانوا يعتقدون أن ما تقوم به الحركة الوطنية لا يعنيهم وهو شأن خاص ومسألة داخلية لا يجوز لهم التدخل فيها لذلك لم نر لهم مساندة لجهد زعماء الحركة الوطنية و كانوا يعدون هذا الموقف حيادا وتجنبا للعداوة وهو في الحقيقة استقالة وتخل عن مفهوم المواطنة والانتماء للوطن كانوا لا يؤمنون أن لهم مصير واحد و مشترك مع بقية أفراد الشعب التونسي وهو موقف ملتو حرصا منهم على نيل قبول الجميع وبهذا انحصرت اهتمامات الصحافة العبرية في قضايا اليهود لا غير من دون الاهتمام بقضايا المجتمع التونسي. وهذا الموقف الذي وقفنا عليه في هذه المحاضرة من خلال رصد مضمون ومحتوى القضايا التي تناولتها الصحافة العبرية في تونس يطرح عدة أسئلة حارقة في علاقة بضرورة إعادة النظر في مفهوم الانتماء للوطن ومفهوم حمل جنسية البلد وإعادة النظر في مسألة تونسية اليهود التونسيين خاصة وأن جلهم قد منحته فرنسا الاستعمارية جنسيتها وأصبحوا من رعاياها وأعلنوا الانتماء إليها فهل يكفي أن يتواجد اليهود على أرضنا ويعيشون بيننا حتى نمنحهم صفة المواطنة من غير ان يتقاسموا معنا الهموم والشواغل التي مثلت هاجس الشعب ؟ إن الغريب في الأمر هو أن عدد الصحف العبرية في تلك الفترة من التاريخ كان كثيرا وقد تجاوز معدل 15 عنوانا ولكن جلها لم تهتم بالقضية التونسية ولا اعتنت بالشأن الداخلي ولا انخرطت في المطالب الوطنية واكتفت بالنظر فيما يشغل بال الاقلية اليهودية لا غير فكيف يمكن ان نعتبرهم مواطنين ويحملون الجنسية التونسسية في الوقت الذي خيروا فيه الاستقالة عن القضايا الوطنية وفي الوقت الذي نجدهم قد وثقوا الارتباط بالحركة الصهيونية وأعلنوا ولاءهم لدولة الاستعمار . بعد هذه الحقائق التي كشفتها هذه الندوة حول مضمون الصحافة العبرية في تونس فهل ما زلنا نعتقد في تونسية اليهود التونسيين ؟ أم نحتاج ان نعيد النظر في مفهوم المواطنة ومفهوم الجنسية التي تعني فيما تعني الانخراط في نفس الهموم والتعبير عن نفس الشواغل وأن يكون لنا نفس المصير المشترك لأفراد الشعب. إن المفيد الذي نخرج به من هذه الندوة حول الصحافة العبرية في تونس هو أن اليهود التونسيين لم يكونوا يوما تونسيين بالمعنى المواطني للكلمة وبمعنى الانخراط في المصير الواحد ربما كانوا تونسيين من الناحية القانونية ومن ناحية تواجدهم على أرض واحدة ولكن الانتماء للوطن وحمل جنسيته لا يقتصر هذا فحسب وإنما هو في الاصل انخراط في القضايا المصيرية وحمل الهم الواحد والشواغل الواحدة وأن يعطى الولاء للدولة والوطن قبل أي ولاء آخر والأقلية اليهودية في تونس لم يكن ولاؤها يوما في معظمها لتونس ولا كان انتماؤها لهذه الدولة بل أن قناعتهم التي أفصحوا عنها في صحافتهم الناطقة بلغتهم هي أن ولاءهم الاول والأخير لدولة اليهود التاريخية وحلمهم في العودة إلى أرض الأجداد وانتمائهم للدولة الفرنسية التي منحنهم جنسيتها لذلك لم يزعجوها كثيرا و لم يقاوموا تواجدها في بلادنا . فهل ما زلنا على نفس الانطباع من تونسية اليهود التونسيين ؟ ان الغاية من هذا المقال ليس التحامل على اليهود التونسيين الذين يعدون مكونا من مكونات الشعب لتونسي بقدر ما هو طرح السؤال حول مفهوم المواطنة ومعنى الانتماء للوطن والأرض في علاقة بالمصير المشترك والقضايا الوطنية وفتح الباب لإعادة النظر والتفكير في معنى تونسية اليهود التونسيين