خلال تقديمه ندوة علمية بمؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات صبيحة يوم السبت 30 جوان المنقضي قال الخبير الاقتصادي والأستاذ الجامعي والنقابي السابق عبد الجليل البدوي أن العرض الذي تقدم به الاتحاد الاوروبي لاستكمال تحرير قطاعي الفلاحة والخدمات والذي نحن بصدد مناقشته هو امتداد لاتفاق الشراكة الذي أمضته تونس سنة 1995 ولكنه أعمق وأكمل وأشمل ويتجاوز مجرد اتفاق تجاري على الصيغة التقليدية المعتادة ليرتقي إلى مشروع مجتمعي وحضاري من شأنه أن يغير من صورة تونس وملامح المجتمع لذلك وجب الاعتناء به والتعرف على حقيقة مضمونه الذي يتجاوز على عكس ما يروج له استكمال ما تبقى من عناصر الشراكة القديمة والبت في موضوع الفلاحة والخدمات. لقد تعود الاتحاد الاوروبي ومنذ الستينات من القرن الماضي أن يقدم للحكومة التونسية عرضا بإبرام اتفاق شركة معه يستجيب للمستجدات التي يعرفها فكلما توسع في العدد والتحقت به بلدان أخرى إلا وخرج علينا بمشروع جديد ولكن ما يميز هذا العرض الأخير أنه تجاوز المجال الاقتصادي والتجاري إلى المجال السياسي والتشريعي والثقافي حيث لمسنا حرصا كبيرا على قضية حقول الإنسان وبناء المؤسسات ومسألة التشريعات والقوانين التي وجب أن تكون متفقة مع منظومة القوانين العالمية وما هو معمول به في الدول الأوروبية والتخلي على العلاقات التفاضلية التي تمنح لتونس بعض الامتيازات مراعاة لوضعها التنموي غير المتكافئ مع وضع بلدان الاتحاد الأوروبي وذلك حتى تتمكن من التدارك والالتحاق بمستوى التنمية الأوروبي وتعويضها بقاعدة المعاملة بالمثل والتعامل الند للند وهي وضعية تفاوضية خطيرة تضع تونس البلد الصغير في نفس وضع منظومة الاتحاد الأوروبي الذي تتمتع أعضاؤه بإجراءات حمائية ووقائية كبيرة بما يعني أن الحكومة التونسية تدخل هذه المفوضات بعلاقة غير متساوية فاقدة لنفس القدرات التنافسية. هذا العرض الأخير للاتحاد الاوروبي إضافة إلى تخليه عن فكرة الشريك المتميز والعلاقات المتوازنة المتفهمة لعدم قدرة تونس على مسايرة النسق التنافسي لاقتصاديات الدول الأوروبية وبالتالي منحها هامشا من الحرية في تطبيق الاتفاق أو إرجاء تطبيق بعض بنوده والتمتع بامتيازات خاصة حتى لا يتراجع نسيجها الاقتصادي فقد وسع من مجال التفاوض والتشاور والاتفاق لشمل المواد الفلاحية والخدمات بأنواعها وفتح السوق التونسية للاستثمارات الأجنبية التنافسية وتمكين الاتحاد الاوروبي من المشاركة في دعم الاصلاحات الكبرى التي تعهدت بها تونس مع المؤسسات المالية العالمية وشمل أيضا الحرية الفكرية والأدبية والصناعية والتجارية والقمرقية والحماية اللاقمرقية والأخطر من ذلك شمل التقارب في المنظومات التشريعية والمكتسبات العالمية في مجال منظومة الحقوق الكونية والقوانين المتفق عليها عالميا بما يعني ضرورة تغيير التشريعات التونسية في جميع الميادين حتى تتفق وتتماشى مع منظومة التشريعات الأوروبية ولهذا سمي هذا العرض الأوروبي للشراكة بالشامل والمعمق لأنه تجاوز المجال الفلاحي وقطاع الخدمات ليلامس الفكر والثقافة والتشريع ومن وراء ذلك الخصوصية والهوية لتجد تونس نفسها في وضعية التهديد والاضمحلال والذوبان لكل ما هو ذاتي وخصوصي وتقوية الاندماج الكلي في المنظومة الاقتصادية والفكرية الأوروبية من خلال توفير أكبر قدر من الضمان وأوسع ظروف لاستقطاب الاستثمار الأجنبي وحماية المصالح الاقتصادية الأوروبية. إن كل النقاط التي حواها هذا العرض الجديد للشراكة مع الاتحاد الأوروبي وعددها 12 نقطة تصب في اتجاه واحد وهي جعل تونس في وضع التبعية للغرب والارتهان لمؤسساته المالية ولمنظومته الاقتصادية والتشريعية و هي تبعية ليست بالجديدة حيث تضمنت العروض السابقة صورا أخرى لهذه التبعية لكن هذه المرة فإن الذي سيحصل للبلاد هو إعادة انتاج وضع التبعية الدائم ما يذكر بوضع الاستعمار والهيمنة التي لم تعد اليوم عسكرية وإنما تحولت إلى هيمنة اقتصادية ومالية وحضارية ثقافية. وخطورة هذا الواقع الجديد الذي يعمل اتفاق الشراكة الشامل والمعمق على تكريسه في بلادنا هو في تأثيره على استقلال قرارنا السيادي وخياراتنا السياسية والتنموية التي ستصبح مشروطة وكذلك على منوال التنمية الذي سوف يرتهن مستقبلا لدى دوائر القرار الأوروبي التي سوف يصبح لها حق إملاء التوجهات العامة للسياسة التنموية ومنوال التنمية الذي تحتاجه البلاد وهذا الأمر بدأنا نلمس بعض مظاهره في مجال الدراسات المتعلقة بإصلاح المنظومة التربوية والجبائية وإعداد منوال التنمية الممولة من طرف الاتحاد الأوروبي فكل هذه البرامج التي تعد استراتيجية وراءها مكاتب دراسات تابعة للاتحاد وتعمل على تسويق أفكاره وبرامجه خدمة لمصالحه . إن الخطورة اليوم إلى جانب كل ما قلناه في المجال التنموي والخيارات الاستراتيجية هو التأثير العميق لهذا الاتفاق الجديد على منظومتنا التشريعية والقانونية التي يفرض الاتحاد الأوروبي تغييرها بما يتماشى مع قوانينه ومن هنا نفهم الحرص الكبير الذي وجدناه لدى لجنة الحقوق والمساواة على تقديم مبادرة تشريعية لتغيير قوانين المواريث الشرعية وأحكام الأسرة وإقرار حقوق المثلية والحرية الجنسية للناس والتخلي عن كل ما يمت بصلة إلى الدين الإسلامي وكل ما به رابط بالنصوص الدينية وصلة بالانتماء الحضاري والثقافة الإسلامية بما يعني أن اتفاق الشراكة الأوروبي هذا إلى جانب ما يعرضه من خيارات اقتصادية وتجارية خطيرة على حياة وعيش الفرد التونسي فإنه يعرض مشروعا مجتمعيا وثقافيا وحضاريا جديدا يقطع نهائيا مع موضوع الهوية والخصوصية العربية الإسلامية ليجعل من تونس بلدا تابعا للاتحاد الاوروبي وشبيها بالمجتمعات العلمانية في بلدان ما وراء البحار إن لم يكن طرفا من أطراف جغرافيا بلدان ساحل البحر الأبيض المتوسط . إن المفيد الذي وجب التأكيد عليه هو أن هذه المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي هذه المرة تفتقد إلى المفاوض التونسي المدافع بشراسة عن المصالح الوطنية والمفاوض الواعي بحقيقة كل هذه المخاطر التي أتينا عليها وهي مخاطر تتجاوز تحرير قطاعي الفلاحة والخدمات وفتح السوق التونسية للمستثمر الأجنبي إلى مخاطر مجتمعية وحضارية وثقاقية بإلحاق تونس بالغرب وبالدول الأوروبية بعد تحرير المنظومة التشريعية التونسية وتنقيحها ومخاطر أخرى تتعلق بالسيادة الوطنية ومفهوم الاستقلال ومخاطر تلامس إعادة انتاج التبعية من جديد والعودة إلى مشروع الاستقلال غير المعلن ومخاطر أخرى تتعلق بجعل العقل التونسي سجين العقل الغربي وأسير منظومته الاقتصادية المعولمة في انتاج المقاربات والخيارات والاستراتيجيات الوطنية ما يعيدنا إلى مفهوم الترابط والارتباط الذي كرسته وثيقة الاستقلال من وراء مصطلح " interdependance " ما يمكن قوله بكل وضوح ودقة هو أن هذا العرض الأوروبي المعروف باتفاقية الشراكة الشاملة والمعمقة يحتوي على مخاطر حقيقية تزيد من حالة الخوف والحيرة على هذا البلد والشك في قدرة من يحكمنا اليوم على إدارة الحكم بكل وطنية ويفرض طرح السؤال الكبير هل نحن فعلا مستقلون ؟