كثيرا ما أسمع وأقرا عن الديمقراطية ، وأرى وأشاهد محاسنها ومساويها ، في عدد من البلدان التي يدّعي المتخصّصون فيها أنهم أنصارها أو خالقوها أو باعثوها أو مبدعوها ، وأرى وأعاين نتائجها التي يتبجّحون بها ، كأنهم لا يرون ، أو لا يريدون أن يروا ، نقائصا وعيوبها. أمام كلّ هذا أجدني في حيرة من نفسي وبلبلة ، عاجزا عن الفهم أو حتى عن قبول ما اعتبره غيري واقعا ملموسا. إنّي رغم قصر نظري البصري والبصيري ، ورغم تسلّحي بنظارتين ، واحدة أمام كل عين ، ورغم ما يتهمونني به من تميّز بالذكاء والفطنة وسرعة الفهم ، فقد وجدتني عاجزا عن هضم هذه الديمقراطية المزعومة. أو إنّ هذا هذيان منّي؟ سأسمح لنفسي ببرهة علِّيَ أشرح أثناءها رأيي ! أو ليست الديمقراطية عدالة ومساواة بين المواطنين المتساكنين؟ إني ، رغم بعد نظري القصير ألاحظ ، وأنا لست بشديد الملاحظة ، أن الديمقراطية التي يتبجّحون ببعثها ونتبجّح اليوم باعتناقها ، واعتبارها النظام الأمثل ، هي في الواقع منقوصة تشوبها عيوب ، تغافلوا ونتغافل عنها ونتغاضى ، أو أننا لا نريد الاعتراف بها وبوجودها ، ووجوب العمل على إزالتها ، فنتغاضى تعنُّتا وتكبّرا ، لأننا مغرورون باعتقادنا أننا بلغنا ما لم يبلغه غيرنا ، فأحرزنا العدل والمساواة والإنصاف والحق ، وبلغنا الكمال أو نحن على ملمس منه. إن نظري القصير القاصر، لا يرى ولا يشاهد ولا يلمس شيئا من كل ذلك. لأنّي ، حتى ولو نزعت نظاراتي من أمام عيني ، رأيت ولمست وشاهدت وتيقنت بأن عكس ما يُدّعى وندّعيه سائد حولنا ، يجسّم الواقع والحقيقة التي نحن عنها غافلون، لأننا غارقون في لجج من الغرور والتعاظم والتكابر، داخل بودقة الأنانية الضيقة، والمحسوبية الحقة ، والتمييز التفضيلي ، والكل على أسس اعتبار الصورة التي نراها أمامنا يوميا ، في مرآة حمامنا ونحن نحلق ونتطهّر، لا من عيوبنا مع الأسف ، هي الصورة المثلى والأعلى والأسمى والأكمل ، وليس بعدها صورة. إننا ، كما يفعل المتقدّمون عنّا ، وهم حسب دعواهم مخترعو الديمقراطية ، أصبحنا في مذهبنا ومعتقداتنا نرى الديمقراطية تمثل محور الدنيا ومركز الحياة ، ونحن بها محور الكون وأسياده ، متناسين التواضع واحتمال النقص وإمكانية تسرّب الأخطاء ، عاملين بعبارة السيدة " بومبادور" خليلة ملك فرنسا لويس الخامس عشرأو هي عبارته حسب بعض الروايات: ليعمّ بعدي الطوفان. قال أحد العارفين ، من أولائك الذين إذا تكلّموا قال السامعون آمين ، " إنّ من أسس ومحاسن ديمقراطيتنا الانتخابات." أجبْت بالصّمت ، خشية أو خوفا من سياط الحاضرين الكلامية. لكنّ صمتي لم يحل دون تزاحم الأسئلة في فضاء ذهني الضيّق، تحت صلعتي اللمّاعة. قال انتخابات ! أيّها يعني ؟ أيجهل أنّ بعض اللامعين أمثاله ، قد وضعوا وقنّنوا وصنّفوا أساليب عدّة من الانتخابات ، كلّ أسلوب منها يساعد هذا النوع من التنظيمات المشاركة ويضر بتلك ؟ ونوع آخر غايته تركيز نظام الحزبين الذي ظهرت للعيان عيوبه ؟ رغم معرفتي المحدودة ، عرفت أو سمعت عن بضع نماذج من الانتخابات ، مثل الأغلبية النسبية، وأسلوب الدورتين ، وأسلوب فكتور هوندت ، وما تبقّى كثير. قال انتخابات ، نعم ! فمرحبا بها وأهلا. لكن ، هل يعني بها مجرّد وقوفي في صفّ ، وإذا جاء دوري وضِعت بصندوق الاقتراع ورقة تحمل قائمة قصيرة أو طويلة من أسماء لا أعرف ، ولا يعرف الناخبون مثلي ، عن أصحابها وكفاءتهم وصدقهم ونواياهم شيئا ، وهم الذين سينوبونني غدا ، وسيتكلمون باسمي ونيابة عنّي ؟ سأتغافل عن بقية الأسئلة التي ستقلقني وتزعجني في منامي ، لأتذوّق قوله أنّ الانتخابات أساس الديمقراطية وسأحاول ، إن استطعت ، فهم ما يعنيه. هل يقصد الانتخابات التي وصفتها قبل حين ؟ أم يعني انتخابات مباشرة ، شخصية ، فردية ، أختار فيها سيدات أو سادة معروفين لديّ، لي فكرة ، ولو إجمالية ، عن تكوينهم وسيرتهم وصدقهم وأفكارهم وأمانتهم لأنهم ، أو أنهنّ ، سيمثلونني غدا وينوبونني ، أي يديرون شؤوني ومصالحي ، استنادا على القانون ، فتُحدّد واجباتي ، وتُسجَّل حقوقي لأنهنّ أو أنهم أنا بالنيابة. أكل هذا هذيان منّي؟ قد يكون ! فأنا خاضع لتواضعي الذي يملي عليّ الأخذ برأي غيري ، ولو عارض رأيي وخدش كبريائي. لكن أليس من حقّي التمتع بكرم قارئ هذه الأسطر، فيهبني برهة أذود فيها وخلالها وعلى مداها عن رأيي القصير القاصر؟ سأتمتع بهذا الحقّ إذن ، شاكرا مثنيا معترفا بالكرم والسماحة وحسن القبول فأقول : أمن الديمقراطية أن يتحكم واحد وخمسون من مائة في تسعة وأربعين ، حكما مطلقا دون اعتبار أي رأي لذلك النصف المبتور؟ دون أن ننسى أن الواحد الذي كوّن الأغلبية ، أغلبية الديمقراطية التي نتباهى بها ونقدسها ، كثيرا ما رأيناه يأتي عبر طريق غير الاقتراع النزيه لينظمّ إلى الخمسين ، بل رأيناه في بلدان عدّة ، مبهوتين مصدومين عاجزين ، قد اقتني أي أوتي به أو شراه صاحبه بثمن بخس دراهم معدودات ، لا أحد يعلم مأتاها لأن ذلك على المتتبعين عزيز. أمن الديمقراطية عدم المساواة في المعاملة أمام العدالة التي تأتي بها ، فيحاكم سارق رغيف دفعه السغب والجوع ليأتي ما أتاه ، فيدخل السجن ويقبع فيه حتى يصبح محترفا متخصصا في السرقة والصعلكة ، وتغض العدالة ، أو ما يسمى هكذا في ربوع الديمقراطية المزهرة اليانعة ، بصرها وتلتفت تجاه كل النواحي كي لا ترى ولا تحاسب من يستولي أو يحصل على آلاف الملايين من العملة الرائجة الفاتحة ، فتّاحة كل الأبواب ولو كانت موصدة ضاعت مفاتيحها ، فتراهم آمنين مطمئنين على الأرائك ينظرون ؟ أمن الديمقراطية أن يشبع القليلون ويجوع الأكثرون ؟ كما هو الحال هنا وهناك حيث يقع بصري القصير القاصر؟ أمن الديمقراطية أن تتكدس الثروات في أيد قليلة و توزع الفاقة والخصاصة مجانا على ثلاثة أرباع سكان أرضنا التي سيهجرها قريبا الجائعون ، ليبنوا لهم أكواخا في المريخ يوارون فيهم أحياهم ؟ أمن الديمقراطية أن يزحف القوي بجيوشه فيدوس الضعيف ويسلبه متاعه ثم يتكرّم عليه باستعباده ، ففي تلك العبودية تقدم وشرّف؟ مثل هذا شاهدته وتابعته وشاركت في مناقشات حوله ، في بلدان ذات أنظمة " ديمقراطية " عريقة متأصلة ، لا أبالغ إذا قلت أن أي انتقاد يمسها يعتبر كفرا أو يكاد. إنّ الديمقراطية في رأيي القاصر ونظري القصير، هي بتعبير بسيط ، نقيض الدكتاتورية. هي ، بتعبير أصح ضمان ، حماية ، تطبيق مبادئ سامية ، اعتبرت وتعتبر حقا طبيعيّا للبشر داخل مجتمعاتهم وطرق حكمهم ، يتمتّع بها كلّ المتساكنين بمساواة كاملة دون تحيّز أو تمييز، بلا ضغط أو إجبار، لا فرق بين هذا وذاك إلا بالعمل واحترام القانون. يا لهذه العبارات الرنّانة من سحر وتخدير! مساواة ، لا تحيّز، لا تمييز ، احترام القانون ! أيّ قانون ؟ أيّة مساواة ؟ نظرت حولي في كلّ مكان ، وسألت في كلّ أوان ، فقيل لي أن النظام ديمقراطي سليم. سعدت بما سمعت لكني احترت لما شاهدت وعاينت . رأيتني ورأيت أمثالي والأغلبية من المتساكنين هنا وهناك وفي ما أبعد ، يقصد كلّ واحد منهم مكان عمله والحصول على رزقه بمركبته الخاصة أو مستعملا الوسائل العمومية. ورأيت وشاهدت وعاينت أن الحاكم والمدير والنائب وأمثالهم يحملون إلى أعمالهم في سيارات من أملاك الدولة ، بسائق خاص ، وحرس خاص ، والتكاليف من صندوق الجميع ، خزانة الدولة. رأيت وشاهدت وعاينت ما هو أثقل وأمرّ، وهو أنّ النائب بالبرلمان ، يتمتع هو الآخر بامتيازات كثيرة يعرفها الجميع ، أقلها الحصانة ، ومنها العلاوات مقابل كلّ تحرّك غير المناقشات تحت قبّة البرلمان ، وفي بعض البلدان الهاتف المحمول والحاسوب وغير هذا كثير، ممولة تكاليفه من خزانة الجميع. من هذا وشبيهه من عدم المساوات أو الامتيازات ، يشتكي المنوّبون ، امتيازات لا يتمتع بها المنوّب ولا يحلم بها ، وهي في أغلب الأحيان بالغة الكلفة ، مأخوذة مقاديرها من خزينة الدولة طبعا أي خزينة المنوّب أيضا. كلّ هذا وغيره من العيوب والنقائص قد يطول سرده وتعداده ووصفه ، اشتكت منه دوما الجماهير، دون أن ترفع صوتها ، إلى أن فاض الكأس فأخذت تتململ ، وما تحرّكات بلدان أوربا مؤخرا ، إلا دليل على ما عنيته وأعنيه. لكن ، إن نجحت تلك البلدان ، مثل إسبانيا وألمانيا ولحقت إيطاليا ، فقضت على الأغليبة المطلقة و"دكتاتورية الحزبين" فقد أحيت الأفعى السامّة ، أفعة التطرّف والتمييزالعنصري ، وما هو آت مجهول ، والمجهول أخطاره في حمله. خلاصة قولي وإيضاح رأيي – القصير القاصر- هو أنّ الديمقراطية السّائدة ، رغم ما بها ولها من محاسن ، هي ككل عمل بشريّ لها وجهان: الإيجابيّ المحبّب المفضّل ، والسّلبيّ البغيض الخطير، وخطره في التغاضي عنه أو نكرانه. ويزاد الخطر مضرّة إذا طبّقت الديمقراطية بمحاكاة عمياء ، يسيّرها مُركّب نقص شخصي وإعجاب أو حتى تأليه للآخر. إن الديمقراطية في نظري القصير البسيط المتواضع، هي – بما تحمله نظريّا من مبادئ سامية وأغراض نبيلة وضمانات الواجبات والحقوق - أشبه شيئ بقطعة نسيج رفيع ، من الدّمقس الطبيعيّ الجيّد ، غالي الحصول عليه ، يناسب ارتداؤه كلّ الفصول والأمكنة ، لابدّ لمن أراده وحصل عليه، أن يصنعه حسب مقاساته وبنيته ، مكيّفا " منمّقا " بما يتماشى وطبيعة وحاجات وغايات مُرتديه ، لأنّ ما يناسب هذا ليس شرطا أن يناسب ذاك. الديمقراطية نعم ، لكن لا محاكاة وتقليدا ، بل ثقافة وممارسة . إنّ العاقل من اعتبر بغيره ، والتجربة أقوى دليل ، فأفضل من المحاكاة والتقليد ، العبرة والانتباه لتحاشي إدخال الإصبع في الجحر الذي لدغ فيه إصبع الجار.