لأن خياراتنا هي التي تميزنا.......... مهما طال بي الزمن لن أنسى تلك الليالي الأربعين التي نمتها إلى جانب ماما في سريرها ملتصقة بها ...فعليا لم تغمض لي عين لحظة واحدة ...كانت تهاجمني الكوابيس بأن جثثا آدمية تخرج لي من تحت السرير و من الخزانة و من خلف الستائر ...هياكل عظمية و مومياءات بشعور منتفة و عيون غائرة و أشلاء ممزقة ... لم يكن هذا نتيجة لفيلم رعب تابعته على التلفزيون .. نعود لتلك اللحظة الرائعة عندما صدرت نتائج البكالوريا في أواخر الثمانينات و كنت من المتفوقين بنتيجة …مبهرة 236/240 و بدأت النقاشات في العائلة أي فرع سأختار... كان صعبا عليي أن أعترض على إغراءات الجميع أن أكون ( الدكتورة يارا ) .. و كان ما أرادوه و دخلت كلية الطب البشري و أنا أعرف و الكل يعرف أنها ليست رغبتي و لا إرادتي .. و من جلسة التشريح العملي الأولى و رؤيتي للجثث المسجاة على أسرة التشريح أيقنت تماما أنني لم أخلق لأكون طبيبة بشرية أعالج المرضى و الأوجاع و الجراح و الدماء و الصرخات و آهات الألم ... على الرغم من أنني أعرف و الجميع يعرف أن الطب هي مهنة إنسانية مقدسة .. لكن ميولي أدبية ... أعشق اللغة العربية و أشعار أبي تمام و البحتري و الجواهري ... عشت مع محفوظ و إحسان عبد القدوس و تشيخوف و دوستوفسكي كل تفصيلة قرأتها في رواياتهم... أربعون ليلة نمتها بجانب الماما أرتجف خوفا و حيرة ... ماذا أفعل؟؟؟ كيف أستمر في اختصاص لا أحبه و لا يشبهني ؟؟؟ و لو تفوقت في دراسته فلن أنجح في ممارسته و لن أكون يوما طبيبة ناجحة أنا أطبب القلوب و المشاعر ... فكيف لي أن أتعامل مع دماء و التهابات و قروحات و أنا أخاف أن أرى نقطة دم واحدة أنا لن أكون أنا و أخذت قراري و تحديت العالم كله الذي حاول إقناعي ساعة بالترهيب و ساعة بالإغراء و الترغيب لأبقى في كلية الطب... خسرت سنة دراسية كاملة لأن قوانين التسجيل الجامعي تمنعنا من الانتقال من كلية لأخرى في سنة واحدة... اخترت الصيدلة ... مع أنها ليست فرعا أدبيا لكنها كانت حلا وسطا و كما درسونا في اول محاضرة حضرناها (( الصيدلة علم و فن و تجارة )) بعد 10 سنين من تخرجي و زواجي و عملي بالصيدلة ... و في لحظة حلم جميل...سجلت في التعليم المفتوح كلية ترجمة انكليزية... و سهرت الليالي و أنا أدرس أدب شكسبير و شعر أليوت و أترجم قصص أطفال و نشرات طقس و عناوين أخبار و تقارير طبية .... و تخرجت بمعدل ممتاز بعمركم ما تختاروا الا ال أنتو بتحبوه خلوا الحلم جواتكم بيجوز اليوم ما يتحقق بس بكرا بيجي يوم و بتعيشوه حقيقة