مدريد 26-7-2018 سبق لي أن كتبت عن أصالة الشعوب ومحافظتها على كلّ ما له صلة بمسيرتها الحياتية ، وكلّ ما سجّله لها التاريخ من إيجابيات وسلبيات ، حتّى تثبت لنفسها ولغيرها، وتترك لأجيالها الصاعدة واللاحقة ، براهين حيّة ملموسة ، تحكي الماضي وتبرز العبرة وتحذّر من تكرّر العثرات. كتبت أقول : إنّ الدُّول والشعوب التي تحترم نفسها وتريد ترسيخ قدمها بين غيرها من الشعوب والأمم ، تعمل جاهدة للحفاظ على هويّتها ، وعلى كلّ مكوّناتها الفكريّة والماديّة التي تميّزها عن الآخرين ، فتُعرف وتُنعت وتحترم بها لأنها بالمحافظة على خاصّياتها تبرهن على أصالتها والاعتزاز بما إليها. تذكرت هذا وأنا أقرأ مقالا قصيرا ، بل هو خبر طويل ، في إحدى الصحف التونسية ، عرفتها بالجدية في مهنيتها ، وبعقلانية معالجتها الأمور، فانتظرت منها أكثر من مجرّد خبر، عن قرار اتُّخِذ بخصوص ما كنّا نسمّيه "دار الباي" ويدعوه محبّو التضخيم والبهرجة " قصر الباي" ، الجدير بكل التسميات ، إلا أن يسمّى قصرا، إذ ليس له ممّا للقصور شيء. إحقاقا للحق ، أدمجت الصحيفة جملة أشارت بها إلى ما احتوته تلك الدار من تاريخ. إنّ دار الباي المتحدّث عنها تقع بحمام الأنف ، المدينة التي كانت أحق بأن تعيّن عاصمة الولاية التابعة لها ، تلك المدينة التي كنّا ، ولا تسل كيف كنّا ، أيام الكفاح والطموحات والأحلام ، ننتظر لها ، وللحمامات ، وجربة ، و"برّ الجريد " ومدن وأماكن أخرى مستقبلا سياحيا زاهرا بعد الاستقلال. فهي بلدة حبتها الطبيعة بشاطئ فسيح طويل ، وجبل بغاباته جميل ، وعينين بمياه معدنية ساخنة تعالج البرد الدّفين. جاء الاستقلال فتحقّقت أحلامنا في الحمّامات وبقاع أخرى ، إلّا حمام الأنف ، التي بُلِيت بغضب من حقود قدير، فأهملت وهمّشت فانهارت ، وما أصاب دار الباي إلا بعض ما نالها وهو كثير. ليس غريبا بين البشر أن يمسّ الحقد هذا أو ذاك ، لكن أن يُنَزَّل مفعوله على مدينة ، فهذا من عجائب العجب ، التي لا تجري إلا بتونس السبّاقة في الكثير من الأمور والعجائب. فما الذي يدفع إلى مثل هذا التصرّف العجيب ؟ إنه ، على ما يبدو ، رواسب ، رغم الإيمان والإسلام ، بقيت في أنفسنا كحثالة من الوثنية ، جعلتنا نميل إلى عبادة الأشخاص ، حبّا وإعجابا ، أو خوفا ورهبة، أو نفاقا وتملّقا ، أو كلّ هذه الحالات والصفات مجتمعة. إن مدينة حمام الأنف ، ارتبط تاريخها المعاصر القريب بتاريخ تونس وحركتها الوطنية بمختلف أشكالها وأحداثها وهزاتها . فهي ععلاوة على أنها مقرّ عمل وإقامة رئيس الدولة ملك البلاد ، هي مأوى النخب المناضلة التي مثلت نسبة كبيرة من سكانها ، والتي لا يُحصر أو يعدّ ما أتته وقدّمته للحركة الوطنية – أي للوطن – من جليل الأعمال والتضحيات. فحمام الأنف هي مدينة الزعيم علي الزليطني ، القيادي إبراهيم عبد الله ، النقابي الطاهر البرصالي ، الشيخ الهاشمي الحامي ، الفلاحي الشيخ محمد الهادي بن الحاج ، الدستوري حمادي اللبان ، ومحرز وخليفة بن الأمين ، المكافح السرّي فتحي الزليطني ، والمناضل علي الشحيمي وغيرهم كثير من المربين الوطنيين مثل محمد عبد اللطيف والأستاذ العتيري والمهندس أخوه. أما العائلات المتصلة بحاشية الباي فهي كثيرة أيضا أذكر منها عائلة قايد السبسي والعبّاسي وبن زكوروالقائمة طويلة. زار أحد وزراء السياحة مدريد ، قبل الانتفاضة التي غيرت الوضع بكثير، فسألته عن سبب غضب السلطات على حمام الأنف ، ففاجأه السؤال ، لأن الغضب أقدم منه ، فأخرج هاتفه المحمول وخاطب من خاطب ، دون أن يجيبني بأي إيضاح. علمت آنئذ أنّ الغضب على المدن يورث كما تورث الثروات. أما دار الباي فأذكر أنه دار حديث بشأنها ، منذ سنوات عدّة ، بيني وبين الشاعر والمفكر المحاضر ، مدير عام مؤسسة الإذاعة المسموعة والمرئية سابقا ، الصديق عبد العيز قاسم ، فجاء ذكر ما دار تحت سقفها وبين جدرانها من أحداث ، وصراعات، ومناقشات ، ونشاطات كانت مهمة حاسمة ، بالنسبة لتاريخ البلاد ، خاصة في مرحلته النضالية الأخيرة ، التي أتت بالاستقلال. لم يتوقف الأمر بيننا على النقاش والأسف ، بل أخذني الأستاذ عبد العزيز بسيارته ودخلنا حمام الأنف كأننا نريد لمس الداء بايدينا. لم نزر دار الباي ، لكن زرنا الحمام الملتصق بها " حمام الوكالة " كما كان يسمّى ، وأجرينا حديثا مع الساهر عليه الذي لم يخف هو الآخر ألمه وأسفه. سأترفّع عن ذكر ما سمعته ويقال حول سبب ترك الدار تنهار، وما ينتظر من وراء ذلك ، لأن التعرّض للقيل والقال ، بلا حجة أو وثيقة أو برهان ، هو عيب كبير ومضيعة للوقت. لكن لابدّ من التعرض وذكر بعض تاريخ دار الباي ، على الأقل من أوّل الأربعينات من القرن الماضي ، عندما أصبحت مركز ومحور السياسة التونسية بكلّ فروعها ، فجعلت – بالتبعية – حمام الأنف عاصمة البلاد السياسية. ففي هذه الدار قطن المنصف باي ومنها شعّ نشاطه الوطني الفريد ، وشاعت أخباره وآراؤه. منها أعلن ، لما دخلت قوات المحور البلاد فجرّتها إلى الحرب العالمية الثانية بالرغم منها ، أعلن حمام الأنف مدينة مفتوحة أملا منه سلامتها وسلامة من يلوذ بها ، فكان ذلك ولو نسبيا. منها أخرجته يد الظلم والعدوان إلى المنفى فالإقامة الجبرية. خلفه فيها وفي الجلوس على العرش محمد الأمين باي الذي التزم الركود أو عدم التحرّك ، رغم ما ناله من انتقادات وتعدّيات من طرف الشعب بإشارة من قادة الحركة الوطنية ، لأنه كان يعتبر نفسه وليّ عهد لا أكثر، يملأ المكان لغياب صاحبه الشرعي. لكن ما أن توفي المنصف باي ، حتى أخذ في التحرّك رويدا ، إلى أن أصبح في انسجام تام مع مختلف الزعماء والقادة ، خاصة منهم فرحات حشاد والمنجي سليم ، يسير في درب الحركة الوطنية إلى أن استُرجع الاستقلال . قاعة الاستقبال أو هي قاعة العرش بهذه الدار عرفت تعيين وزارتي التفاوض مع فرنسا ، والحبيب بورقيبة أوّل رئيس حكومة تونسية " مستقلّة " . في هذه الدار خطب المقيم العام الفرنسي " دي هوتكلوك " مهدّدا متوعّدا ، عند وصوله البلاد على متن بارجة حربية ، منها فرّ الوزيران محمد بدرة وصالح بن يوسف إلى باريس ، لتقديم القضية التونسية وطرحها أمام مجلس أمن الأممالمتحدة ، ومنها أُخرِج محمد الأمين باي ، عند إعلان الجمهورية ، ليلقى مصيرا لا يشرّف تونس ولا شعبها ، فيستجيب لنداء ربّه في شقة بحيّ لافايات بعد ما لاقى من الإهانات وسوء المعاملات ما يخجل هذا القلم أو لمسات الحاسوب من ذكرها. لعلّ كثير تجوالي وطول إقامتي ببلدان لها ثقافات مختلفة عن ثقافتنا أوثقافاتنا ، ومتابعتي ، بحكم العمل ودافع الاطلاع للكتابة ، لعديد إنجازات شعوب معظم تلك البلدان ، وملاحظة شديد وكبير عنايتها بكلّ ، وحتى قليل القيمة والأهمية ، من تاريخها ومسيرتها عبر العصور، وإبداعات أفراد شعبها مهما صغرت ، وتنظيفها أو ترميمها أو إعادة تزويقها ، ثم الاحتفاظ بها بتخصيص المتاحف لها كي تبقى مدى الدّهر تاجا فوق راسها ، يحكي ما شعرت وتشعر به من فخر واعتزاز، أوحتى تباه وادعاء ، أمام غيرها من شعوب العالم. لعلّ هذا جميعه ، هو الذي يدفعني إلى الشعور بالحياء ، والاشمئزاز أوالغضب ، عندما أرى وأشاهد وألمس ضياع الكثير الكثير مما كان يجب علينا المحافظة عليه ، والاعتراف به وله ، من مواطنينا ، وإنجازاتنا ، وإبداعاتنا ، وخطايانا وعثراتنا حتى نستطيع القول هذه آثارنا تدلّ علينا. هل مشاعر الألم والحزن والحسرة ، هي نتيجة مشاهداتي فقط ، أو هي ثمرة ثقافة وطنية لُقِّنتُها كما تلقاها جيلي ، من آباء ومؤدبين وقادة ومسيرين ، معلّمين عارفين ، ووطنيين مخلصين ، وعلماء متديّنين ، عاهدوا الله والوطن والضمير ، على زرع بذرة تنبت أغنى السنابل ذوات الحب المغذّي الغزير؟ إنّ ما هو متأكد لديّ ، هو أني لست الوحيد من يحمل هذه المشاعر، أو يشكو النقائص والإهمال ، فما أنا إلا نفر من جيل أو أكثر من جيل ، أغلبه يحمل نفس الثقافة والتربية ، ومعطمه يشعر بما أشعر، ومن لا يصدّق قولي فليُجرِ استقصاء عامّا حوله ، ويعطينا النتيجة.