سأروي لكم هذه المرة عن قصة سد نبهانة الذي تصل مياهه للساحل تلبية لحاجة المزارعين في طبلبة الذين شحت ابارهم من كثرة الجذب من الطبقة السطحية الحلوة وتسربت المياه المالحة اليها وباتت خطرا أتت على أشجار البرتقال التي اختصت بها وحدها طبلبة في الساحل ومازال الكبار في الجهة الى الان يتذكرون نكهة مذاقها الجميل. كان بورقيبة زمن الكفاح مواضبا على زيارتها والإقامة فيها لأيام في جنان الحاج محمد الهباشي رحمه الله ويطيل البقاء فيها للتمتع بهوائها المعتدل وجمال بساتينها الفيحاء المغروسة برتقالا ويستقبل أنصاره في غفلة من رقابة البوليس الذي كان يتتبع خطواته بدقة. رجع بورقيبة لتلك القرية الفلاحية الهادئة التي قدمت لأجل تونس ثمانية شهداء يوم 23 جانفب 1952 فكانت الشرارة الاولى للمعركة المسلحة التي انطلقت بعد إيقاف بورقيبة بخمسة أيام من 18 جانفي 1952 وتحديد اقامته بطبرقة وذلك تنفيذا لتعليمات الزعيم السرية التي تركها لمن يثق فيهم من رجال تلك البلدة قبل ابعاده واعلانه العصيان والمقاومة المسلحة على فرنسا بعد فشل المفاوضات وتعيين دي هت كلوك مقيما عاما لها في تونس لتركيعها مثلما كان مع مستعمراتها الاخرى. كانت زيارة بورقيبة لها مباشرة بعد الاستقلال الذاتي وقبل امضاء وثيقة الاستقلال التام يوم 20 مارس 1956. لقد ففوجئ وقتها بالحالة التي اصبحت عليها الزراعة وجنائن البرتقال في تلك القرية الساحلية المحاصرة بين البحر الابيض المتوسط شرقا وسبخة المكنيين غربا وهي تعيش عادة على زراعة الفصليات البدرية واشجار البرتقال المنتشرة في الجنائن في جزء منها وعلى مردود الصيد البحري في الجزء المتبقي وبالطرق التقاليدية. قال لي الكبار من قريتنا طبلبة ان بورقيبة تأثر من ذلك الحال ووعد بتوفير الحل المناسب لعلاجه وهو ما أمر به وزرائه بعدما تولى الحكم بنفسه وبعدما عاد الحكم بأبدينا. ذلك ما حكاه لي وزير الفلاحة والتجهيز سابقا المرحوم الأسعد بن عصمان في قائم حياته اثناء احدى زياراته لولاية القيروان التي كنت وقتها واليا عليها. كانت لنا وقتها برامج كبرى مع وزارته ومنها بناء سد سيدي سعد وهو أكبر حزان للمياه وقتها في كامل الجمهورية، وهو من حمى المدينة من فيضان وادي زرود الذي اعيانا لسنين ومات بسببه ميئات من المواطنين وهم نياما في فيضانات خريف سنة 1969 الشهيرة. قال لي يومها الوزير منوها بقدرات أبناء بلدتي طبلبة وافرط في مدحهم مام الحضور قاصدا بذلك تحميسهم للزراعة السقوية. وحكى لي يومها كامل القصة التي مرت ببناء سد وادي نبهانة الذي كان المشرف عليه شخصيا، وقال لي على انفراد ان بورقيبة هو الذي قرر وامر وزرائه بتدبر الامر وجلب الماء الى طبلبة مهما كانت الأحوال، ولكن الأبواب وقتها كانت موصده وخزينة الدولة خاوية ولم يقبل أحد بتمويل بناء ذلك السد الترابي الذي وقع الاختيار عليه وهو يقع بمعتمدية السبيخة من ولاية القيروان وذلك لأهمية الكلفة المالية وقلة المردود الذي سيحصل منه. لذلك تم الالتجاء الى الوكالة الامريكية للتنمية التي أرسلت وفدا منها الى طبلبة كي يطلعوا مباشرة على الطريقة التي اختص بها هؤلاء الفلاحون وحدهم لإنتاج الباكرات وفي غير وقتها وبيعها بأثمان تغطي تكاليفهم وأكثر. اما صورة الحكاية فاني أرويها لكم كما عشتها شخصيا بنفسي لما كنت طفلا صغيرا، إذ ما زلت اتذكر كيف يتصارع الانسان مع الطبيعة ويفوز عليها ويكسبها ابتداء من إعداد الارض صيفا بقلبها من اساسها بيديه وبوسائل بدائية، وإعداده لمشتلة الفلفل والطماطم مسبقا قبل رش بذور السفنارية وحرثها على الجفاف بعد تسميدها طبيعيا وتحويضها في مربعات متساوية وينقل اليها تلك المشتلة ويغرسها على الشياح ثم يرويها بالماء العذب الذي يستخرجه بالدواب من الابار العميقة، وكل ذلك يقع بين شهري أوت وسبتمبر من كل عام ويتكرر ذلك سنويا. وبما ان نبتة السفنارية أسرع نموا واغصانها أطول وتتحمل الجليد فإنها تغطي نبتة الفلفل في ايّام البرد في شهري ديسمبر وجانفي وتحمي منتوج الفلفل البدري من المضرة وخاصة في أيام اشتداد البرد في الليالي المشهورة ببردها الشديد، وبذلك يسلم المنتوج الاول شتاء ويقع جنيه ويسوق بأسعار عالية يجد المزارع فيها ما بذله مسبقا من تعب وشقاء وجهد ويسدد ديونه منه. وبعدما يخرج فصل الشتاء تقتلع السفناربة من جذورها لتباع في الأسواق كخضار تستهلك عادة في الساحل او تعطى للحيوان علفا اخضر شهيا. وبذلك تنتهي المرحلة الأولى وتبدأ المرحلة الثانية بزبر نبتة الفلفل على اخرها لتصبح أعوادا ويعاد تسميدها وسقايتها استعدادا للموسم الثاني الأساسي المتمثل في انتاج الفلفل في فصله الطبيعي كي يسوق في الربيع وبداية الصيف ويكسب المزارع من ذلك نصيبا آخر من المال ليمول به الموسم القادم. قال لي المرحوم الأسعد بن عصمان رحمه الله إن البعثة الامريكية أقنعت بذلك وتكبرت الطريقة ووافقت على منح تونس قرضا ميسرا لبناء السد ومد قنوات الري من ولاية القيروان الى الساحل مرورا بالوردنين والساحلين والمكنيين وطبلبة ثم الى البقالطة واخيرا المهدية هكذا كانت طبلبة سببا في جلب الماء من ولاية القيروان للساحل كله ولكنها لم تنل منه الا القليل منه اذ لم تتجاوز المساحة المخصصة لها الا اقل من 200هكتار في أحسن تقدير، بينما انتفع بالبقية مناطق اخرى وتعلمت منها الصنعة وخاصة بعد اكتشاف البيوت المكيفة التي انتشرت في الشمال والوسط والجنوب وفي مناطق المياه الساخنة وخاصة في نفزاوة وواحتها الجميلة. انها قصة طبلبة المناضلة التي جفت مياه آبارها وضاقت أراضيها وانقطع عنها المدد أخيرا من نبهانة في هذه السنين لقلّتها في السد المتجمعة فيه وكثرة استعمالها في المناطق الأقرب للمصدر. انها قصة أرويها لكم ولشباب طبلبة وكهولها ولمن يريد ان يعرف عنها.