في الستينات من القرن الماضي، تحرّكت أقلام عديدة حول فيلم درامي رومنسي أخرجه ستانلي كريمر وكتب قصته وليام روز. روعة الفيلم واسمه: من سيشاركنا للعشاء، تمثلت في السؤال نفسه، والذي طرحته بطلة الفيلم الشقراء صاحبة العينين الزرقاوين على أبويها: ترى من سيحلّ ضيفا على العشاء هذه الليلة؟ لاحقني هذا السؤال كلما تعلّق الأمر بحدث ما، بخطوبة ما، بقادم ما، بضيف ما، بشخص ما يسألونك عنه وأنت لا تعرف عنه شيئا.. أنت تتصوّر كلّ شيء، تنحته بخيالك، وتشكّله كما يحلو لك، لكن بتلك الكلمات القليلة التي تعلقت بهذا الشخص.. ومن يدري؟
سنة 1903، في أوج المرحلة الاستعمارية، اكتشف بمنطقة سومريست بإنكلترا، هيكل عظمي يكاد يكون كاملا لإنسان بدائي. وهو أقدم هيكل عظمي كامل للبشر في بريطانيا ويعود إلى فترة العشرة آلاف سنة. وقد احتفظ به بمتحف المعرض الجديد لتطور البشر Human Evolution. وقد أظهر فحص الهيكل العظمي أن هذا الشخص لم يكن كبيرًا جدًا وفقًا لمعاييرنا الحالية: 1.66 م. وربما مات هذا الإنسان العاقل في عمر صغير جدًا، في أوائل العشرينات. وكما تشير الكسور على سطح الجمجمة إلى احتمال أن تكون نهايته مأساوية. لا نعرف كيف انتهى به المطاف في هذا الكهف ولكن من الممكن أن يكون قد وضعه هناك أفراد من عشيرته، بعد إصابته. ويبدو أنه مات بصورة عنيفة إثر اكتشاف آفة في شكل فوهة كبيرة مباشرة فوق مدار الجمجمة من الجهة اليمنى، وربما كان يعاني من داء بالعظام، أو أنّه تعرّض إلى تعنيف شديد. وبما أنّه اكتشف بكهف بجوف شيدار جورج، فقد سمي هذا الآدمي *رجل شيدار*. وكان من الطبيعي أن تتم دراسة هذا الأنموذج دراسة كاملة.. وقد اتضح أنّه فعلا ينتمي إلى ما نسميه بالإنسان العاقل HOMO SAPIENS. ثم هو وضع في كهف... ولعلّ دفن الميت قد تم في البشر من عشرات الآلاف من السنين. لكن المفاجأة جاءت عند فحص الحمض الديأكسيريبونوكلييكي ADN في هذه الفترة الأخيرة من حياتنا تأكّد أمر الاهتمام بكلّ الجزئيات والتفاصيل. ذاك أن دراسة الحمض الديأكسيريبونوكلييكي ADN، أضحت أمرا ممكنا وفي غاية الأهمية انطلاقا من بعض بقايا الأنسجة. وهذه الدراسة الجينية ليست استثنائية، فقد تمت لعدة حالات.. لكن المفاجأة قد تأتي ممن تمت دعوته للعشاء بيننا، لكن وخاصة بين أهالي بريطانيا المعروفة بسكانها ذوي البشرة البيضاء والعيون الزرقاء... نتائج الدراسة الوراثية وضحت أن العصر الحجري القديم البريطاني قد احتوى لسكانه بشرة بنية داكنة أو سوداء، لكن وكذلك بعيون زرقاء وشعر داكن، مع وجود احتمال صغير بأن شعر رجل شيدار هو أكثر تجعيدا. وقد يبدو هذا المزيج (العيون الزرقاء، الجلد الأسود) مدهشًا بالنسبة إلى الأوروبيين اليوم، ولكنه كان مظهرًا شائعًا إلى حد ما في أوروبا الغربية الميزوليتية. ثم إنّ هذه الدراسة ليست ثورية ولا استثنائية رغم نتائجها.. وهو على عكس ما انتظرته الشبكات الاجتماعية. بالأمس، بتونس، كان بيننا رجل علم نال جائزة نوبل بتجاربه على أراضينا... ثبت أن شارل نيكول كان يزرع القمّل في رؤوس الأنديجان... والأنديجان هم جدك وجدي وجدّ أبيك أيها القارئ... كان شارل نيكول يختار فئران مخبره من مستشفى الرازي، دون موافقتهم أو موافقة الدكتور الشاذلي .. يزرع القمّل من رأس مصاب إلى رأس تونسي سليم، وينتظر إمكانية انتقال الإصابة أو التعقيدات وحتى الموت... لم يكن يجري هذه التجارب على المالطيين ولا على اليهود ولا على الفرنسيين.... فقط الأنديجان... حتى أن بعض منظري فرنسا الاستعمارية كانوا قد وصفوا أهالينا من تونس والجزائر بأنهم لا يملكون قشرة مخية.. فهم أنديجان.!! واليوم نجد بلدانا تمنع بشرا من الدخول إلى أراضيها لمجرّد اختلاف في العقيدة أو العرق. ونجد من العنصريين من يتبجحون ببشرتهم البيضاء وأصلهم الآري ولعلّهم يجهلون أصلهم الواحد والوحيد وهو الأصل الإفريقي... كلنا من أصل واحد: الإفريقي الأسمر. لكن ما قرأناه في صفحات التواصل الاجتماعي حول هذا الاكتشاف كان رافضا لهذه الأطروحة. وهو يطرح أكثر من سؤال ويوضّح أكثر من موقف وكأنّ الاكتشاف صدم المعتقد وهزّ ترابيق العنصرية لدى العديد. من جهة أخرى، لا يمكن أن ننكر أن من يمتطي صهوة المنبر أو بحور الشعر ليسمح لنفسه بالسب والشتم ينسى أنّه هو الذي يزوّد النار حطبا وحصبا... هو من يدفع بمزيد من المواقف العنصرية بميزها وتحقيرها للمهاجرين بصورة قانونية فما بالك بمن امتطى قاربا من قوارب الموت ليشق عباب الصحراء والبحر ويقتات من فتات الآخرين... وعلى من يعتبر نفسه مثقفا أن ينبذ نفسه أوّلا إذ يمكنه تحقير غيره يهوديا كان أو بوذيا أو نصرانيا وحتى ملحدا وكافرا... فهؤلاء الكفار صنعوا هذه الأجهزة التي نقرأ على شاشاتها هذه الكتابات. من جهة أخرى أكّد الأخصائيون في الأنثروبولوجيا وفي الفحص الجيني أن خاصية الجلد الأسمر في الأوروبيين قديما هو أمر ثابت لا يدع مجالا للشك.. وأما الجلد الأبيض اليوم فهو في الحقيقة ظاهرة حديثة نسبياً في تاريخنا. وقد تأتي فرص أخرى لإثبات تحوّل البشرة من سمراء إلى بيضاء.. وقد قال البروفيسور كريس سترينجر، رئيس قسم الأبحاث في أصول الإنسان بالمتحف: "لقد درست الهيكل العظمي لرجل شيدار لنحو أربعين عاما ... حتى أن الأمر بدا مدهشا... بالإضافة إلى الجمع غير المتوقع بين الشعر المتجعّد ولون العينين الزرقاوين والبشرة الداكنة.... قبل بضع سنوات، لم يكن بوسعنا أن نتخيل الأمر، ومع ذلك فإن هذا قد تمّ إثباته بشكل لا لبس فيه انطلاقا من البيانات العلمية. "
بالعود إلى الفيلم: خمن فيمن سيشاركنا العشاء؟ حين سألت البطلة الشقراء ذات العينين الزرقاوين والديها عن تكهّنهم أمر من هي كانت دعت على مائدة العشاء، (وفي الواقع هي دعته لتقدّمه كخطيب لها وزوج للمستقبل) لم يمرّ بمخيلة أمريكيين أبيضين من سان فرانسيسكو هول المفاجأة.. لقد توقعا كل شيء.. كل احتمال عيب في هذا الحبيب الذي تمت دعوته، وكل وضع استثنائي.. غير أنهما لم يتوقعا أن يكون أسود البشرة!! وسيدني بواتييه البطل الأسود في الفيلم كان فعلا رائعا في أدائه.. وهو الذي كان يعمل كطبيب ونائب لمدير منظمة الصحة العالمية. والقصة لم تنته عند هذه النقطة... فقد تمت دعوة أبوي الخطيب الأسمر لهذا العشاء... والسؤال هو: هل قبل الأبوان الأسمران هذه الزيجة من هذه الشقراء ذات العينين الزرقاوين بابنهما الأسمر؟