منذ أن أعلن رئيس الجمهورية في عيد المرأة في السنة الفارطة عن عزمه تنقيح مجلة الأحوال الشخصية في مادة المواريث نحو إقرار مبدأ المساواة بين جميع الورثة عوضا عن تطبيق منظومة المواريث الشرعية كما جاءت في النص القرآني والحديث النبوي وضبطتها المدونة الفقهية ، ومنذ أن أعلن كذلك عن إحداث لجنة خاصة لهذا الموضوع مهمتها تقديم مقترحات تخص المساواة في الميراث ومقترحات أخرى تتناول الحريات الفردية والجماعية في اتجاه التخلي عن كل ممارسة أو تشريع استبدادي تعسفي لا يتفق مع ما أمضت عليه تونس من معاهدات دولية في مجال الحقوق والحريات ، منذ ذلك التاريخ شرع أعضاء اللجنة الذين اختارهم رئيس الدولة و التي قيل فيها الكثير من الكلام عن افتقادها لاختصاصات ضرورية في عمل بحجم هذا الاصلاح الاجتماعي وعدم تشريكها ضمن تركيبتها لأهل الاختصاص في الشأن الديني مما جعلها عرضة منذ الوهلة الاولى إلى انتقادات كبيرة بخصوص تركيبتها قبل النظر في منجزها وما أعدته من مقترحات ، شرع أعضاء اللجنة في إعطاء المسوغات لهذا الاصلاح التشريعي والمبررات الاجتماعية والقانونية التي تفرض البدء في تنقيحات تمس منظومة المواريث والأسرة والعلاقة بين الرجل والمرأة ومما قيل وقتها أن المرأة التونسية قد وصلت في الوقت الحاضر وبعد مسيرة من تحديث الدولة التونسية إلى مرتبة ووضعية أصبحت فيها تعمل وتساهم مساهمة فعالة في نفقات البيت بل في الكثير من الأحوال كانت هي العائل الأول للأسرة وهذا التطور الحاصل في دور المرأة في البيت والمجتمع يفرض اليوم أن نغير قواعد الميراث استجابة للمتغيرات الاجتماعية الحاصلة واعترافا بالواقع الموجود فالتنقيحات المزمع القيام بها هي في الحقيقة لا تخرج عن كونها اعترافا بوضع جديد تشهده المرأة في علاقتها بالرجل والأسرة . كما قدمت تبريرات أخرى لإقناع الشعب بجدوى هذا الاصلاح الاجتماعي أهمها تنفيذ ما تعهدت به الدولة التونسية وأمضت عليه من معاهدات واتفاقيات مع مختلف المنظمات العالمية التي تعني بالحقوق والحريات بما يعني أن مبادرة رئيس الدولة جاءت استجابة لكل التوصيات التي تعهدت بها الدولة التونسية ومنها القضاء على كل أشكال التمييز بين الجنسين والتخلي عن كل القوانين والتشريعات التي لا تحقق المساواة التامة و الفعلية بين المرأة والرجل وهي مبادرة اتضح اليوم أنها مبنية على الشروط التي وضعتها مختلف المنظمات العالمية والمؤسسات المالية العالمية التي تعهدت بمساندة تونس حتى تتخطى وضعها الاقتصادي الصعب ومرحلة الانتقال الديمقراطي الذي تمر به منذ سنوات بعد الثورة . لكن المبرر الذي لم تفصح عنه لجنة الحريات والذي حكم عملها وكان المرجعية الفكرية التي اعتمدت عليها واحتكمت إليها هو فكرة " الجندر " التي ظهرت في بداية الثمانينات من القرن الماضي كبديل عن فكر الحركات النسوية في العالم والذي كان تطالب بأكثر حقوق للمرأة شأنها شأن الرجل مثل الحق في الانتخاب والحق في العمل والحق في الحصول على أجر مساو للرجل والكثير من الحقوق الأخرى التي حرمت منها لعقود من الزمن فجاءت نظرية الجندر كمرحلة متقدمة عما كانت تطرحه الحركة النسوية . والجندر مصطلح مفاده أن التمييز داخل المجتمع وتحديد مكانة المرأة والرجل فيه وفي الأسرة لا يقوم ولا يؤسس على اعتبارات جنسية وخصائص بيولوجية يحملها الفرد منذ الولادة وأن العلاقة بين الجنسين لا تحددها طبيعة جنس كل منها وإنما النوع الاجتماعي والدور الاجتماعي والجنس الاجتماعي هو المحدد في العلاقة بين الأفراد داخل المجتمع فالجندر مفهوم يجعل من الوضع الاجتماعي والاقتصادي للمرأة والرجل هو الذي يحدد مكانتهما وليس ضفة جنسيهما بما يعني أننا لم نعد نتحدث عن فروق جنسية وطبيعية خاصة بالرجل والمرأة وإنما أصبحنا نتحدث عن وضعية اجتماعية وحالة اقتصادية يعيشانها وهي التي تميز أفراد المجتمع بما يعني أن التمييز يقوم على أساس الحالة الاجتماعية في علاقة بالدولة والمجتمع وهي حالة تجمع الجنسين معا بقطع النظر عن الجنس والخاصيات الطبيعية للأفراد. هذه الفكرة التي تنفي أي فرق أو تمييز بين الرجل والمرأة على أساس الجنس والتي لا تعترف بالأدوار المختلفة لهما من منطلق طبيعة الرجل وطبيعة المرأة وهذه الفكرة التي تجعل الأدوار داخل المجتمع تتحكم فيها الوضعيات الاجتماعية والحالة الاقتصادية للأفراد لا نوع الجنس والتي تسمح وتقبل بتبادل الأدوار بين الرجل والمرأة بحيث لم يعد للمرأة مهام وأدوار معينة تقوم بها وللرجل هو الآخر أعمال خاصة يؤديها وإنما مشكلات المرأة وفق المقاربة الجندرية لم تعد الفوارق البيولوجية الموروثة وإنما العوائق الاجتماعية والوضعية الاجتماعية التي تفرضها الثقافة السائدة وتتحكم فيها المنظومة الدينية والتجربة التاريخية فالتقسيم القديم بين رجل وامرأة والأدوار التي يقومان بها على أساس اختلاف الجنس والاختلاف في الخصائص البيولوجية لا تعرتف بها الجندرية وتستبدلها بتقسيم وفهم آخر يقوم على الوضع الاجتماعي الذي يخلق نوعا اجتماعيا لا يفرق بين الرجل والمرأة وإنما يمزج الاثنين معا في وضعية ومكانة اجتماعية مشتركة وحالة واحدة للفرد في علاقته بالعمل ووضعه داخل الأسرة والمجتمع بقطع النظر عن جنسه رجلا كان أو امرأة. هذه هي المرجعية الفكرية التي تتبناها لجنة الحريات الفردية والمساواة في المقترحات التي تقدمت بها وهي مرجعية قلما تحدثنا عنها أو تناولناها بالدرس والتحليل وهي مرجعية فكرية تنتهي بالضرورة إلى إلغاء كل الفروق بين الرجل والمرأة من حيث اختلاف الجنس والخصائص البيولوجية الطبيعية وتقر مبدأ المساواة التامة بين الجنسين وتلغي أية مرجعية أخرى تقدم مقاربة مختلفة عن المقاربة الجندرية فأعضاء لجنة الحريات منخرطون كليا في منظومة العولمة التشريعية وملتزمون بمنظومة الحقوق الكونية ومنظومة المعاهدات الدولية التي تعترف بالنظرية الجندرية وتنتصر لها مرجعا أصليا في كل نظرة للمرأة والرجل. ومن خلال هذه الفكرة أمكن لنا أن نفهم كل المقترحات التي تقدمت بها اللجنة في علاقة بالزواج والمثلية الجنسية وبشروط الزواج من مهر وصداق وغيرهما وزواج المسلمة يغير المسلم وتوزيع الميراث وكل القضايا التي تنتمي إلى المنظومة الدينية والمقاربة الاسلامية التي رغم اعترافها بالنوع الاجتماعي وعدم انكارها لفكرة الجنس الاجتماعي فهي لا تلغي حقيقة الاختلافات البيولوجية وأن المرأة ليست كالرجل من حيث تركيبتها النفسية والبيولوجية الخلقية وإلا لما كان للخالق أن يوجد جنسين مختلفين وخلق بدلا عنهما جنسا واحد وانتهت القضية.