دأبت البشرية طوال مسيرتها تبحث ، وتجرّب ، وتنفذ مخططات وأنظمة اقتصادية تضمن بها العمل والغذاء والسلام. تعدّدت المحاولات بتعدّد المناطق والبلدان والمناخات والظروف ، فتقدّمت وتطوّرت ، لكنها لم تقتنع فتتوقف ، إلى أن جاءت الثورة الصناعية في منتصف القرن الثامن عشر. بدأت زراعية ، بإدخال الآلة مع أو بدل العامل ، لزيادة "وتحسين" الإنتاج ، ثمّ صارت صناعيّة وانتشرت في العالم انتشارا سريعا محدثة تغيّرا كبيرا في المجتمعات. غيّرت عاداتها وحاجياتها ، وما هو أهمّ ، ظروف وطبائع العمل والإنجاز. ظهرت عندئذ عناصر وعوامل جديدة ، من أهمها العامل وحقوقه ، وتعدّد الملكية أو تفرّعها لتسيير الاقتصاد والتحكم فيه. اختصارا نقول ، أسفر البحث والدّرس والتجربة وتقييم النتائج إلى ثلاثة أشكال رئيسيّة في النظام الاقتصادي وتسييره والتحكم فيه. اقتصاد بيد السلطات ، وهو المسيّر ، والحرّ ، وهو ملك القادرين على الامتلاك ، والمشترك ، وهو التعاوني أو التعاضدي. هذا ، كما يرى العارف ، تعريف مبسّط مختصر، كي لا نتوه في سرد التاريخ وتفاصيله ، لأنّ أواخر القرن التاسع عشر، وأكثر من نصف القرن العشرين ، لم يعرف العالم فيها ، قبل ذلك ، بحوثات واجتهادات واقتراحات ومطالبات وصراعا ت وتضحيات ، كما عرفها في تلك الفترة ، في سبيل إيجاد نظام اقتصادي يضمن ، كما سلف القول ، العمل والانتاج والسلام ، بما فيه من رفاهية وازدهار. انتهى القرن العشرون بعد أن ساد نظام الاقتصاد الحر، أو السوق الحرّة حسب بعض التعابير، وبعد أن أجريت ، هنا وهناك ، تجارب كان يمكن أن تفلح وتأتي أكلها ، لو لم تقابل بمقاومة و"عداء" ، بلغا من العنف نصيبا ، لا أحد يعلم – أو أنا الوحيد الذي لا يعلم – الأسباب العلمية الموضوعية لتلك المقاومة وذاك العداء. أتت بعض التجارب والتطبيقات محفوفة ببعض الأخطاء ، أي نعم ، أذكر منها عدم التهيئة ، وغياب التثقيف ، والسرعة في التطبيق ، والفرض أحيانا ، لكنّ المنطق والتحليل ، وبعض الأمثلة ، برهنت وتبرهن على أنه لم تكن الحاجة تدعو إلى المقاومة والعداء ، إن لم يكونا " لحاجة في نفس يعقوب." فالتسيير الحكومي له مزاياه ، على أن لا يكون شاملا بل مقصورا على بعض فروع الإنتاج أو الخدمات. الملكية الفردية لكلّ من استطاع هي الأساس ، ولابدّ أن تجد ما تحتاجه من حرية واستقلالية ومنافسات ، على أن تَحترِم القوانين وحقوق جميع من توظفه أو يتعاون معها. والملكية المشتركة أو نظام التعاونيات ، له أيضا كثير المزايا ، والفوائد الإنتاجية والاجتماعية والمالية ، على أن تلقّن ثقافتها ، وتهيّأ الجماهير لفهمها ، ولمس فوائدها ومردوداتها ، وأن تقام طوعا لا فرضا ، وبالسرعة أو الخطى التي يفرضها القطاع ، وظروفه وإمكاناته وإمكانات البلاد المعنيّة. هكذا نرى ، والصواب يؤيدنا بلا شك ، أن المقترحات ، أي الأنظمة الاقتصادية المقترحة ، نتيجة أبحاث صادقة ، وغايات نبيلة ، وتجارب تشير إلى الإيجابية وإمكانية الفَلاح ، يمكنها أن تتعايش على أرضية واحدة ، وأن تتعاون وتتكامل ، لبلوغ غاية واحدة ، هي الإنتاج وجودته ووفرته ، وراحة العاملين وضمان حقوقهم ، سيّان كانوا في القمّة أو أسفلَ الهرم ، والاستجابة أولا وآخرا لمتطلبات واحتياجات البلاد وأهلها. لكن! إن الكثيرين ممن بلغوا سنّ الرشاد بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ، وشرع الناس في إعادة بناء وترميم ما تهدّم وانهار، يذكرون ولا شك ، المقاومة والصراعات – العنيفة أحيانا – التي واجهتها البلدان التي حدثتها نفسها بتطبيق ، أو حتى تجربة ، نظام التعاونيات ، أو أيّ نظام اقتصادي غير الذي اعتنقه وطبقة ذوو الجاه والسلطان، الذين اعتبروا تطبيق غير نظامهم تحدّيا وخروجا عن الإجماع ، فإذا بها مقاطعة، وحصار، وفرض عقوبات تسلط على كلّ بلاد أرادت ، أي جسرت على ، إجراء تجارب تراها مناسبة كفيلة بتحقيق نمو ورفاه لشعبها. يعلم الخاص والعام ، أنّ علم الاقتصاد ليس علما دقيقا ، ومن ثَمَّ فهو يدعو إلى التجربة ، ويفرض القياس واحترام معطيات ، وخاصيات ، وإمكانات ، وظروف ، وثروات ، ومناخ البلاد المَعْنيّة ، دون إهمال طبائع واحتياجات متساكنيها ، وهذا يجعل من الواجب والضروري ، لكلّ بلاد، تكييف نظامها الاقتصادي حسب معطياتها الخاصّة ، فلا مجال للتقليد أو المحاكاة أو الفرض. يقول مثلنا الشعبي:" إن ضرب ابننا ولدَكم فتلك حال الصّغار، لكن إن ضرب ولدكم إبنَنا شؤم النهار." يحضرني هذا المثل ، كلّما وقفت عند أمر مثل هذا الذي بين أيدينا. فنظام التعاونيات أو التعاضد ، وكل نظام اقتصادي بدت فيه رائحة الشراكة أو التعاون أو تعدّد المُلاّك ، أو تدخّلت الدّولة فيه ، لاقى ، كما ذكرت ، شديد المقاومة من الذين نراهم اليوم يطبقون ما قاوموه أمس ، واعتبروه كفرا وبهتانا ، ولو جاء التطبيق بأشكال مختلفة ، وعلى مستويات أعلى ، بمبالغ صعبة الحصر، وفي بلدان متعدّدة في نفس الوقت والظرف ، وبلا حدود. سبق التمهيد لهذا بسنّ قوانين تفتح الحدود ، تزيل الموانع فتصبغ الشرعية ، وها هو مثال حيّ لتجسيم ما أقول. شاخت سيارتي ، فأصبحت تحتاج ، هي الأخرى ، فحص الطبيب وتناول الأدوية والعقاقير، ممّا أدّى إلى البحث عن بديل ، فشرعت ، بعد التفكير والاستعداد نفسانيا ومادّيّا ، في البحث عن بائع نوع كنت جرّبته بنجاح في الماضي ، فقصدت عنوانا نصحوني التعامل معه ، وإذا بي تحت لافتة تحمل اسم نوع آخرفهممت بالخروج. لكن استوقفني المكلّف وقد عرفني وعرفته ، فأخبرني بأني في المكان المناسب ، وأعلمني أنّ النوع الذي أبحث عنه موجود ، وهولم يعد مستقلا ، بل حُشِر ضمن مجموعة تمثل وتتصرّف في ثلاثة عشر نوعا من السيارات من سبعة بلدان مختلفة. وعندما سألته عن نوع آخر، اعتذر وقال لي أجده عند مجموعة كذا ، التي تضمّ اثني عشر نوعا من السيارات. فهمت ، والفهم صعب ، أنّ الشركات ، مهما كبر حجمها ، وتفرّع نشاطها، وغزرت أرباحها ، قد تميل هي الأخرى إلى التعاون والتعاضد ، لكثرة فوائده وخفيف مشاكله ومصاريفه ، مقارنة بالنشاط المستقل. صحا فضولي من غفوته ، فتتبّعت الأمر بالنسبة للسيارات وغيرها ، فإذا بي أمام عالم يعجّ بهذا الشكل من التعاونيات، والتعاضديات ، والمجموعات ، والشركات متعدّدة الجنسيات ، وسلسلة طويلة من الأسماء المختلفة ، ذات المعنى والمقصود الواحد ، لها نشاط ومبيعات ومشتريات واستثمارات في عدد كبير من بلدان العالم ، دون أن يقاومها أويضغط عليها أو يقاطعها أحد بل هي مُعمَّدة ، مباركة ، محترمة من الجميع فصدق مثلنا بحكمته: إن ضرب ابنُنا ولدكم تلك حال الصّغار، وإن ضرب ولدكم ابننا يا شؤم النهار. خلاصة القول ، هي أنّ المرء ليس في حاجة أن يكون عالم اقتصاد كي يستنتج أنّ على كلّ بلد أو دولة أن تتخذ النظام الإقتصادي الذي ترتئيه مناسبا لها ، مطابقا لحاجياتها وإمكانياتها. وبتواضع وعن غير اختصاص أقول ، أن البلدان المسماة "سائرة في طريق النمو" يناسبها ، إن هي وفّرت الشروط ، تطبيق الأساليب الثلاثة ، الاقتصاد المُسيّر والحُرّ ، والتّعاوُني ، لأنها بتعايش الأنظمة الثلاثة ، وبحسن تسييرها ، تُوفِّر الكثير ، وتحرّك الجميع ، فتضمن الإنتاج والسلم الإجتماعية ، بشرط – كما سلف القول – توفير المتطلبات ، بتهيئة النفوس والعقول ، وتسليم المسؤولية والتسيير لذوي الإختصاص ، والحفاظ على الشفافية في القول ، والتخطيط ، والتوظيف ، والعمل ، والمحاسبة ، والإنتاج. إن البلدان السكندينافية ، والشمال أوربية عموما ، أصبحت أمثولة في أوربا والغرب بأسره ، بتطبيقها الأساليب الثلاثة، مكيفة في كل بلد تماشيا مع معطياته وعقليته وإمكاناته ، فكان النجاح والتوفيق. إنّ ما يُطبّق في البلدان الشمالية ، هو نظام تحتلّ فيه الدولة موقعا مرموقا ، بالنسبة لما يضمن ولوج برامج اجتماعية مختلفة ، لكن ، وخاصة ، حيث الرأسمالية والسوق الحرّة تلعبان دورا أساسيا. كلّ هذا إن دلّ على شيئ فهو يبيّن أن لا حاجة لفرض نظام على أحد ، ولا حاجة لمعاداة نظام وتحريمه بكل الوسائل ، أو تأييد وفرض آخر، خاصة اليوم ، ونحن نشاهد كيف أنّ معادين العولمة أمس ، أصبحوا مناصريها، وأنصارها بالأمس صاروا من مهدِّميها ، ومن أراد دليلا ، يجده في سياسة الرئيس الأميريكي ترامب وغيره من الأوربيين. إنّ العالم يعيش فترة انتقالية كبرى ، وأكثر سرعة ممّا يمكن فهمه أو استيعابه. فها هي تلك التعاونيات العالمية الكبرى ، ذات الجنسيات المتعدّدة ، كما يحلو لبعضهم تسميتها ، تعود ، بعد أن مدّت أصابعها مثل الأخطبوط في كلّ بلد وقطر، تعود إلى الإنكماش ، رويدا رويدا ، لتتقلّص داخل وطنها الأصلي ، لا لتُوفّر مواطن عمل لمواطنيها ، كما وعد وظن السيد ترامب ، بل لتوظف العمّال الآليين " الرّوبوط" ، وهذا يعني الإستغناء على أيدٍ عاملة غير مؤهّلة، والبحث عن غيرها ممّن تكوّنوا للتعامل والعمل ، إلى جنب زميلهم الآلي المصنوع في الصّين. المؤسسة الصناعية الكبرى " كاريير" التي تصنع كلّ ما يخطر على بال، من آلات تكييف الهواء إلى محرّكات يحتاجها الجيش الأمريكي ، اتفقت مع ترامب على استثمار ستة عشر مليون دولار كي تبقى مصانعها بإنديانا ، بدل الهجرة إلى المكسيك. هل يعني هذا خلق مواطن شغل ؟ كلا! فها هو مستشارها المنتدب يعترف بأنهم سيوظفون تلك المبالغ لتُصبح مصانعُهم مسيّرة ذاتيّا – اوتوماتيكيّا – وهو ما يُترجَم ، على المدى الطويل ، بانخفاض في اليد العاملة بضياع مواطن شغل لهم. ليفهم من يبحث عن الفهم ، أن الفترة الانتقالية التي نحياها ، لم يعد فيها مكان لغير المطّلع أو لمن يصمّ سمعه ، كما لم تعد الحاجة لأي تقليد أو محاكاة ، بل لكل ملبوس مقاس لابسه ، وكما يقول مثلنا: على مقاس غطائك ، امدد رجليك. والعبرة لمن يعتبر " ولا أعمى ممن أعماه الله." مدريد 28-8-2018