في تعليقه على الوضع الداخلي المتأزم الذي وصلت إليه بريطانيا بعد قرارها فك ارتباطها مع الاتحاد الأوروبي وإنهاء العلاقة الاقتصادية معه وما ترتب عن هذا الإجراء من مغادرة للعديد من المؤسسات الكبرى نحو بلدان أوروبية أخرى ، قال " أرنولد تونيبي " مؤسس المركز الملكي البريطاني للعلاقات الدولية " إن الحضارات تموت بالانتحار ولا تموت بالقتل " هذه المقولة تعبر اليوم بكل صدق على ما يحصل عندنا في تونس من موت بطيء للدولة التونسية من خلال دخولها في وضعية انتحار مؤلم فكل المؤشرات تفيد اليوم أن هناك سير نحو فقدان الدولة لوجودها ومقومات حياتها فبعد أن كنا بعد الثورة نتحدث عن فقدان الدولة لهيبتها بتعمد التطاول عليها وإضعافها أصبحنا اليوم نخشى من انهاك الدولة تمهيدا لإنهائها والإجهاز عليها . إن الذي يحدث اليوم في تونس هو شبيه بما حدث في تاريخ البشرية للكثير من الدول التي لم تعرف كيف تعيش في عالم متقدم ومزدهر ولم تعرف كيف تخرج من محنها وأزماتها ولم تعرف كيف تنطلق من جديد بعد كبوتها .. اليوم الدولة التونسية منهكة جدا وهي منهكة بانقسام شعبها وغياب وحدته وتماسكه فرغم أن عدد سكان البلاد التونسية ليس بالكبير ورغم أنه لا يعرف ظاهرة التجاذبات العرقيات والإثنيات وتعدد الديانات والفرق والنحل والملل على غرار بعض الدول العربية إلا أنه منقسم انقساما حادا فكل شيء أصبح اليوم يفرقنا ولم يعد تقريبا ما يجمعنا بعد أن أضحت القضية الفلسطينية الوحيدة التي كانت تأتلف حولها مختلف الشرائح محل خلاف. اليوم وبعد سبع سنوات من الثورة ها هي البلاد تعيش على المديونية المتفاقمة والاقتراض من المؤسسات المالية العالمية التي تفرض علينا شروطها وإملاءاتها وتخترق شؤوننا الداخلية وتتحكم في سيادتنا وقرارنا السياسي .. اليوم نسبة التضخم وصلت إلى مستوى مرتفع جدا ببلوغها 7.5 % وما يرافق ذلك من تدهور للمقدرة الشرائية للمواطن وارتفاع الأسعار ونسبة الدين الخارجي وصلت إلى حدود 70% وهو مستوى غير مسبوق في تاريخ تونس و العجز في الميزان التجاري وصل هو الآخر إلى مستوى ينذر بالخطر بوصوله إلى 18 مليار دينار ما يمثل نصف ميزانية الدولة للسنة الحالية وهي وضعية محيرة للمالية العمومية سببها العجز في الكثير من المجالات منها التوريد العشوائي الذي جعل البلاد سوقا مفتوحا أمام البضائع الاجنبية التي يمكن الاستغناء عن الكثير منها في الوقت الحاضر وجعل الدولة تخسر الكثير من رصيدها من العملة الصعبة . اليوم الحالة النفسية للشعب التونسي سيئة جدا بعد أن أصبحت تونس تصنف في مقدمة الشعوب الأكثر تعاسة وتشاؤما من المستقبل باحتلالها المرتبة 111 من جملة 150 دولة في مؤشر السعادة حسب تقرير أعدته الأممالمتحدة خلال شهر جوان من السنة الحالية وهي حالة تعكس النفسية التي بات عليها الشعب التونسي نتيجة عدم تحسن الوضع العام بالبلاد وخاصة الحالة الاجتماعية والاقتصادية .. فالشعب التونسي اليوم مأسور بمظاهر خطيرة تهدده في وجوده من تواصل ظاهرة الانتحار وظاهرة مغادرة حدود البلاد خلسة نحو دول ما وراء البحار في وهم للجنة الموعودة وظاهرة تعاطي المخدرات التي أصبح الحصول عليها وترويجها سهلا للغاية وفي متناول أي فرد وظاهرة الإجرام التي تنوعت صوره وتطورت بشكل لافت بعد أن انتقل الاجرام إلى اقتحام المنازل وخطف الاطفال والنساء والاعتداء عليهم وظاهرة الاغتصاب والتحرش الجنسي الذي بات علامة مميزة للشعب التونسي وظاهرة الانجاب خارج إطار الزواج حيث تم رصد حوالي 1200 مولود يولد سنويا خارج العلاقات الشرعية الكثير منهم لا يعرف مصيره بما يعني ارتفاع ظاهرة الأمهات العازبات وما ينتظرهن من مصير في مجتمع بات تطغى عليه النزعة الفردية والتوجه نحو الفردانية وفي مقابل العلاقات الجنسية الحرة يوجد في مجتمعنا حوالي مليوني امرأة عانس لم يسعفها الحظ للزواج تمثل نصف النساء التونسيات البالغ عددهن حسب آخر إحصاء أربعة ملاين امرأة . اليوم الدولة منهكة بكل هذه المشاكل ومنهكة أكثر في اقتصادها بعد تحكم التجارة الموازية وتوسع الاقتصاد التحتي الذي ينشط خارج المسالك الرسمية وهو اقتصاد تبلغ نسبته 60% حسب آخر التقديرات وهو ينشط بكل حرية من دون دفع الأداءات الحقيقية للدولة وإلى جانب هذه التجارة ظهر نشاط تجاري جديد هو أخطر من التجارة الموازية اطلق عليه اسم " التجارة الطفيلية " وهو مصطلح جديد يطلق على جانب كبير من الاقتصاد الرسمي المعترف به ولكنه لا ينتج الثروة ولا يخلق مواطن شغل ولا تستفيد منه الدولة والمعني به هو النشاط التجاري الذي يستفيد من امتيازات الدولة الجبائية والقمرقية في إطار اتفاقيات تجارة حرة مع الكثير من دول العالم لجلب البضائع الأجنبية وإغراق السوق الداخلية بالسلع التي يتم توريدها بالعميلة الصعبة حيث يكفي اليوم أن يكون لك ترخيص بالتوريد وأن يتوفر لك مستوع حتى تورد ما تشاء من البضائع الأجنبية لجني الأرباح المالية وتحقيق الثروة الذاتية لا غير من دون مساعدة الدولة على تقوية اقتصادها وهي وضعية خطيرة أصبحت اليوم بارزة للعيان من خلال العلامات التجارية الكثيرة التي غزت البلاد وتحول أصحابها إلى تجار بعد أن كانوا ينشطون في المجال الصناعي. إن المشكل في كل هذه الصور التي أوضحناها حول الصعوبات التي تعرفها البلاد هو غياب الفكر الاستراتيجي القادر على التعاطي مع الأزمات وفقدان المقدرة لدى السياسي على ابتكار الأفكار الجديدة والحلول الممكنة للخروج من الوضعيات الصعبة وعدم امتلاكه لآليات الاشتسراف .. ما يقلق اليوم هو بقاء السياسي مجرد مراقب من دون أن يحرك ساكنا ومن دون أن يفعل شيئا من أجل التجاوز وتحسين الحال .. المقلق ليس في وجود المخاطر والمشاكل وهي موجودة في كل الدول ولكن في عدم القدرة على معالجتها .. المقلق اليوم في القناعة التي بدأت تترسخ عند الناس من كوننا أمة تونسية غير قادرة على التغلب على مصاعبها وأمة لا تعرف كيف تعيش في عالم منظم ومتقدم لا مكان فيه إلا للأقوياء .. المقلق أن نستفيق على حقيقة كوننا أمة تونسية لا تعرف كيف تحل مشاكلها .. والمقلق هو أن ننتهي إلى نتيجة مفادها أن الدولة التونسية في طريقها إلى الموت عبر انتحارها وانتحارها في تراكم مشاكلها وأزماتها وأخطارها وصعوباتها مع الشعور بالعجز عن ايجاد الحلول للإنقاذ .. إن الدول لا تموت بقتلها ولكنها تموت بانتحارها واليوم الدولة التونسية في طريقها إلى الانتحار !! هذا ليس تشاؤما ولكنه معاينة ورصد لما يحصل اليوم في بلادي.