بعد تلكؤ البنوك في تخفيض نسبة الفائدة على القروض: صرخة فزع ونداء عاجل لرئيس الدولة..    معدل نسبة الفائدة في السوق النقدية يستقر في حدود 7.5 بالمائة خلال شهر جوان 2025    مصدران أميركيان: إيران أجرت استعدادات لتلغيم "مضيق هرمز"    أكلات تونسية خفيفة وسريعة تناسب الصيف وتنجم تهزها معاك للخدمة    كأس السوبر: نحو اقامة مباراة فاصلة بين الملعب التونسي والاتحاد المنستيري يوم 27 جويلية بملعب الطيب المهيري بصفاقس    الإتحاد المنستيري: حقيقة خلاف فوزي البنزرتي والهيئة المديرة    عاجل/ موجة حر الأسبوع المقبل..وهذه التفاصيل..    أصيبت بوعكة صحية.. طبيب شيرين يكشف تفاصيل جديدة    محاضرة بعنوان "حوار على ضوء القيم ... عندما يصبح التسامح ثقافة والسلام خيارا" بمقر الالكسو    3 حاجات لازم تخليهم سرّ عندك...مش كلّ شيء يتقال    باش تمشي للبنك؟ هذا هو توقيت الصيف للتوانسة الكل!    كأس العالم للأندية: برنامج الدور ربع النهائي    غوف تودع ويمبلدون من الدور الأول    الرابطة الأولى: الملعب التونسي يتعاقد مع 3 لاعبين    عاجل/ المنظمة العالمية للأرصاد الجوية تحذر: توقعوا في المستقبل موجات حر "أسوأ"..    ماهي التيارات الساحبة وكيف نتعامل معها؟ خبير في المناخ يُوضّح..#خبر_عاجل    ترامب يشهر سلاح الترحيل بوجه ماسك    بلدية تونس تسلط 49 مخالفة صحية على محلات مفتوحة للعموم    الاولى من نوعها ... تظاهرة مخصصة للكفاءات الطبية التونسية المقيمة بالخارج يوم 19 جويلية الجاري    ما تعومش عكسو! تعرّف على التيار الساحب وكيف تنقّذ روحك    ماهر الهمامي يدعو إلى إنقاذ الفنان التونسي من التهميش والتفقير    نحو شفافية أكبر في أسواق الجملة: توقيع اتفاقيتين لتركيز منظومة الفوترة الإلكترونية    موش الكل ينجموا يستعملوه... الكليماتيزور خطر على برشة عباد!    ''التاي'' الأخضر: التوقيت المناسب يصنع الفارق    البطولة الفرنسية : جيرو يوقع عقدا لمدة عام واحد مع ليل    إنتقالات: مهاجم المنتخب الوطني في طريقه لخوض تجربة إحترافية جديدة    المرسى: 12 سنة سجناً وغرامة مالية ب20 ألف دينار لمروّج مخدرات داخل الملاهي الليلية    ورثت دار ولا برطمان؟ ما تفرحش قبل ما تفهم الحكاية الكل!    باش تجي لتونس؟ رخصة الجولان ولات ''بكليك'' وانت في دارك!    كيفاش تستغل دارك والا محلك وتدخل منهم فلوس؟    أمطار غزيرة ورياح قوية تضرب المرتفعات...الرصد الجوي يُحذّر!    أسامة الرمضاني يكشف عن تعرضه للسحر: "علاه شعملتلكم؟!"    تفاصيل مثيرة في عملية حجز 43 كلغ ''كوكايين'' في صفاقس    عاجل : النادي الإفريقي يتعاقد مع هذا الحارس    رصد موجات تنبئ بتسونامي في المتوسط.. ما حقيقة الفيديو الذي أثار الرعب..؟!    خبز الشعير أم السميد؟ أيهما الخيار الأفضل لصحتك؟    رئيس الجمهورية يشدد على ضرورة الإسراع بوضع نظام قانوني جديد يحفظ حقوق الأطبّاء والإطار شبه الطبّي والعُمّال    وفاة الفنان المصري أحمد عامر    هجوم إلكتروني يكشف بيانات ملايين من ركاب شركة طيران أسترالية شهيرة    عاجل/ مقترح هدنة جديد ووقف لاطلاق النار في غزة..وهذه التفاصيل..    وزير السياحة يلتقي ممثلي الجامعة التونسية للمطاعم السياحية والجمعية التونسية لمهنيي فن الطبخ    وزارة الفلاحة تدعو شركات تجميع الحبوب إلى الحذر من أمطار محتملة واتخاذ الاحتياطات اللازمة    موسم الحبوب: تجميع 8.325 مليون قنطار    بومهل البساتين.. الحرس الوطني يطيح بمروع المواطنين قرب "ازور سيتي"    بنزرت: وفاة عامل كهرباء بصعقة كهربائية    كيف تؤثر حرارة الصيف على مزاجنا وسلوكياتنا اليومية؟    تاريخ الخيانات السياسية (2)... قصّة أبي رُغال في هدم الكعبة    عاجل/ قريبا.. هذا موعد الإنتهاء من مشروع "جسر الطاقة" بين تونس وإيطاليا    إطلاق إستشارة عمومية حول مشروع كُرّاس الشروط المتعلق بممارسة نشاط خدمة شحن السيّارات الكهربائية    هدى بوسيف رئيسة جمعية تواصل بايطاليا: " نعمل على تعليم أطفال المهجر و علاج أطفال الداخل "    صبّ المال وهات"... أغنية جديدة للفنانة زازا "    "نغمات 3" في مدينة الثقافة:الدخول مجاني لسهرة الطرب و"الربوخ"    تنبيه لمستعملي هذه الطريق السيارة..#خبر_عاجل    البحر المتوسط يُسجّل أعلى درجة حرارة في جوان المنقضي    مهرجان مالطا السينمائي لأفلام البحر المتوسط : الفيلم التونسي "وين ياخذنا الريح" لآمال القلاتي يفوز بجائزة النحلة الذهبية لأفضل فيلم طويل    أولا وأخيرا: «قرط» وتبن وقش    استبدال كسوة الكعبة مع بداية العام الهجري    مطرزا بالذهب والفضة والحرير.. السعودية تكسي الكعبة ثوبها السنوي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نجيب عبد الكافي يكتب لكم: الإسلام دين التعايش والمعاشرة
نشر في الصريح يوم 04 - 10 - 2018

دعيت قبل بضع سنوات لإلقاء محاضرة بالمركز الثقافي الإسلامي بمدريد. قبلت الدعوة فألقيت المحاضرة وقد عنونتها " الإسلام دين التعايش والمعاشرة "، فنالت والحمد لله قبولا واستحسانا . لذا خطر لي الآن ، وقد يكون الدافع صعوبة الظروف التي تحياها بلدان منطقتنا ، أن أختصر الموضوع في مقال ، قد يضيق فلا يأخذ الموضوع حقه ، لكن بعض شيئ خير من لا شيء ، فالعبرة في طرح رأي أو فكرة تضع القارئ على درب يسير فيه بما عنده وما يراه ، فتتلاقح الفكَر والآراء والمفاهيم، فينتج الزُّبد الذي يفيد الناس ، وهذا لعمري هو الغاية والأمل.
إنّ معظم الأديان ، والسماوية منها خاصّة ، أتت بمبادئ سلوكية ، وأمرت بأخلاق تربوية ، أوصت وفرضت على الراشدين من معتنقيها ، التحلّي بها ، والتصرّف بمقتضاها ، والتّعامل بمفاهيمها ، ضمانا لانسجام المجتمعات البشريّة ، وحرصا على استتباب سلم ، وتحقيق تعايش بين البشر ، مهما اختلفت أصولهم ، وتباينت ثقافاتهم ، وتلوّنت أشكالهم ، وتباعدت ألسنتهم . لم يكن الإسلام ، وهو آخر الأديان السّماوية ليشذّ عنها في هذا المضمار ، بل نجده أحيانا ، أحرصها على أن يتحلّى المسلم ، وغير المسلم ، بعديد الخصال الحميدة ، كالصّدق ، والصّراحة ، والعفو عند المقدرة ، والتسامح ، وحسن المعاملة ، والجدال بالتي هي أحسن ، ونبذ العنف ، وغير هذا كثير ممّا يعتبر أسس سلامة المجتمعات ، وضمان عيشها في انسجام وتفاهم ووئام. أن القرآن الكريم ، وهو يخاطب البشريّة جمعاء ، يطالب الإنسان بوجه عام ، كان من كان ، باتباع سيرة منظمة متناسقة ، كي يتمّ ما يريده الإسلام الذي جاء ليقيم بين البشر جميعاً رابطة إنسانية ، قائمة على ارتباط البشر بالله عز وجل ، وقوامها التآخي، والتآزر ، والتعاون ، والتضامن ، حتى يكون الإنسان حقا ، خليفة الخالق في ملكه. يقول الدكتور أحمد السائح في محاضرة له :" إنّ الإسلام يريد أن يعيش الإنسان في جو الاطمئنان ، والاستمتاع بالحياة الإنسانية ، وأن المؤمن ، في نظر الإسلام ، هو المحسن ، والمحسن هو صاحب الإنسانية في سلوكه مع نفسه ومع غيره. "
إن القرآن الكريم ، وهو الدّستور بالتعبير المعاصر، مُقنِّن ، ومُخطِّط ، ومُنظِّم ، صورة وشكل الحياة التي يريدها للإنسان ، فيوصيه بالعمل على تجسيمها في أفعاله وأقواله ، في سلوكه وتصرّفاته ، ونراه مليئا بالآيات الكريمة التي بلفظها ومفهومها تنحى هذا المنحى وتوجّه هذا الاتجاه. لكن ، خشية الإطالة والملل ، ساكتفي بذكر آية واحدة ، أراها لوحدها كفيلة بتبيان ما أشرت إليه ، وتأكيدِه. يقول الخالق وهو أصدق القائلين :" يا ايها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم." أوّل ما يلاحظ هنا هو أنه لم يخاطب أمة غير أخرى ، بل الخطاب وُجّه للناس أجمعين ، وأكرمهم أتقاهم. فما هو التقى؟ لغة هو حماية الذات والنفس من الأضرار، والمخاطر. فالتقيّ مُوَقٍّ نفسه من العذاب والمعاصي والسيّئات، بماذا ؟ بالعمل الصّالح والسلوك الحسن. خلاصة الأمر أنّ أكرم الخلق عند الخالق هو حسن السيرة والسلوك لأن عليهما يتوقف ، وبهما ينظم سير الأمور. فالإنسان مطالب بالعبادة ، نعم ، لكنه مطالب أيضا بأكثر من العبادة. يقول العلامة عمر عبد الكافي ، حول نسبة العبادات وما يقابلها من المعاملات في القرآن الكريم. " أنّ في القرآن 6236 آية ، أيات العبادات منها عشر ومئة آية (110) فقط ...وباقي القرآن هولإعمار حركة الكون ، والمعاملة الطيبة مع المخلوقات التي تعيش معنا ، مسلمين كانوا أم غير مسلمين ، بشرا كانوا أم حيوانات...." فحديثي هذا عن الإسلام ، لا علاقة له بالعبادات وهو مُركّز على المعاملات والمعاشرة و التعايش. إذن وجعلناكم شعوبا وقبائل أي ، جعلناكم مختلفين متفرّقين ، لتعارفوا. فما هو التعارف يا ترى ؟ . التعارف الموصى به في الآية ، هو الإرتواء من كلّ ما هو مسموح به ، معقول معرفته عن الآخر، هو التبصّر وعمق الإطلاع على خصائص ومميّزات الآخر، حتى يسهل ويطيب التعامل معه على يقين وبصيرة ، دون المساس بما يخدش حواسه ، أو يجرح كبرياءه ، أو يمس بكرامته ، فيكون اللقاء والتلاقي ، فينتج التعامل ، الذي يجرّ التبادل والتعاون ، فيكون التعايش والمعاشرة. كلّ هذا يتمّ بمساواة بين الطرفين لأنّ " أكرمكم عند الله أتقاكم." كيف ؟ إنّ المعاشرة تبدأ في البيت ، بطاعة الوالدين وبهما إحسانا ، ثمّ معايشةِ الزوجة بالمعروف ، أو تسريحِها بإحسان . خروجا من البيت نجد الجار، وما يجب تجاهه من إحسان ، فنجد أنّ القرآن قرنه بالوالدين وذوي القربى فتقول الآية الكريمة من سورة النساء: " وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا ، وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ ، وَالْجَارِذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ، وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا." ها نحن إذن خارج البيت ، في الشارع ، وسط المجتمع الذي علينا العيش فيه والتعامل معه. فبماذا على الإنسان ، الذي خلقه الرحمن وعلمه البيان ، أن يتحلّى ويتّصف حسب ما جاء به الإسلام ؟ نبدأ بالرّحمة ، وهي اشمل وأعمّ الصفات البشرية ، وكما جاء في حديث شريف: الرّاحمون يرحمهم الله. تأتي بعد ذلك الإستقامة، على طريق الحق والصواب ، اهدنا السراط المستقيم ، هداية لسلوك الطرق النافعة. طرق أساسها واساس نجاح السير فيها ، حسب متطلباتها يستوجب أكثر ممّا ذكرنا من صفات وأخلاق. فها نحن ، لكثرتها وشمولها معظم ، كي لانقول كلّ مراحل الحياة ، نورد ما أمكن وسمح به المجال دون نظام أوترتيب ، فنذكر الهمّة وبذل الجهد ، والمنافسة الشريفة في الخيرات. مع هذه الصفات لابد من الصبر ، والتعقل والتبصّر ، والقول الحسن ، والكلمة الطيبة ، والجدال بالتي هي أحسن ، والبعد عن الفظاظة وغلاظة القلب ، والوفاء بالوعد والعهد ، والحكم بالعدل ، واتباع الحق وقوله ، والبشاشة ، والقول الميسور ، وعدم تصعير الخد ، ولا المشي مرحا ، واحترام الغير في كلّ ما له ، في نفسه وجسمه ، وفي كلّ ما يمتلكه وينسب إليه. كما يجب عدم الجهر بالسّوء والابتعاد عن النميمة ، وإتيان كلّ ما من شأنه يقرّب بين الناس ، ويُسهّل تبادلاتهم وتعاملاتهم ، ويسبل عليهم ستار التوادد والإحترام المتبادل ، خاصّة بمخاطبتهم بما يفهمون ، كما جاء في الحديث الشريف. ونختم هذا التعداد بقول الله سبحانه:" يؤمنون بالله واليوم الآخر ، ويامرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسرعون في الخيرات وأولائك من الصّالحين".
شهد شاهد من أهلها: قال لي مرة الأستاذ غارثيا غومث المستعرب الإسباني الكبير في لقاء صحفيّ أجريته معه قبل وفاته بقليل: إننا في فتوحاتنا بالقارة الأميريكية ، اقتبسنا سلوككم وطريقتكم ، فأوّل ما عمله قادتنا مصاهرة كبارالقوم من أهل البلاد الجديدة.هل هناك رابط أقوى وأفضل للمعاشرة من المصاهرة والتزاوج ؟ شهادة أخرى أنقلها من كتاب صدر باللغة الفرنسية في باريس ، عنوانه مترجما " الأندلس أو آثار طوبى " دبّجته يراعة المفكر، الكاتب ، الشاعر باللغتين العربية والفرنسية ، الصديق التونسي العربي الأستاذ عبد العزيز قاسم ، الذي يجول سنويا باقطار اوربا ، محاضرا ومساهما في منتديات ، يحاول بها وفيها ، إزالة الغبار عن الحقيقة المطموسة ، حول الإسلام الحق والمسلمين الحقيقيين ، داحضا بالإدلة ، معارضا بالبراهين أقوال وادعاءات المغرضين المخطئين ، جاهدا في سبيل التعايش السليم ، بين الإسلام والعرب والشرق ، وبين المسيحية والأوربيين والغرب. لم يهمل الأستاذ عبد العزيز قاسم هو الآخر، هذه الطريقة الممهّدة للتعايش في كنف الوئام ، فذكر لنا قصّة أيلونة ، آخر ملكة قوطية ، استعصى على موسى بن نصير الإنتصار عليها في ماردة ، حتى وصل ابنه عبد العزيز بنجدة مكنته من الإنتصار، فأخذت أيلونة ضمن الرهائن. "إن جنحوا للسلم فاجنح لها "، بموجب مفهوم هذه الآية ، عقدت المعاهدات بين أول حاكم مسلم وعدد من السادة المحليين... نقل الرّهائن إلى اشبيليا تحت ولاية عبد العزيز، وهناك طلبت الملكة أيلونة مقابلته لتعرف مصيرها ...استقبلها عبد العزيز ودار بينهما حوارفهم أثناءه عزمها على الإنتحار إن هي لاقت ما لا ترتضيه ، فقال لها الأمير: " إن ربّي رحمن رحيم ...وهو يحرّم الإنتحار ، ويأمرني بأن تُعامَلي بالإحترام الذي يتناسب ومرتبتك ." انتهى الأمر، كما هو معروف بزواج عبد العزيز من أليونة ، فكان للزيجة عظيم الأثر لدى كبار وصغار القوم المحليين ، وكبير القبول من الرّجال الفاتحين. لقد عمد المفكر الأستاذ قاسم ، وهو الخبير المتتبع لنتائج سوء النوايا ، والساعي لدحض سيء التاويلات والأكاذيب ، إلى الاستشهاد ما استطاع ، بشهادات النزهاء العارفين من الغربيين بما فيهم الإسبان فأتحفنا بالكثير، مثل ما جاء في ما قاله الكاتب شارل سالوفرانك في مؤلَّفه ذي العنوان المُعبِّر" عندما تشرق الشمس من الغرب " أو ينقل لنا بأمانة ما أخذه في إشبيليا ، ساسيل تيبو، من فم أستاذ التاريخ الإسلامي الأستاذ رافاييل بالنثيا ، فيلقي هذا الأخير نظرة هادئة على الفتح العربي فيقول: " إنها حرب بالأسلوب المتوسطي ، تحارب في الصباح ومتاجرة بالمساء... فالأندلس لم يولد في عقلية حرب صليبية دينية ، بل هو إعداد يسمح بإرساء مجتمع جديد ، لغته العربية. ثمّ إنه لم يكن الحديث أيامها عن ثقافات ثلاث ، بل عن واحدة فقط ، تتعايش في حضنها ثلاثة أديان هي الإسلام ، واليهودية ، والمسيحية." قد يستحسن الزيادة والإكثار من هذه الأمثلة والشواهد ، لكن عملا بمقولة : ومن التطويل ملّت الهمم ، نكتفي بهذا القدر إذن لكن بعد إعطاء دليل أخير وهو أنّ محمّد الأوّل – مؤسس مدريد – الذي شهره المؤرخون بالشدة والعنف ، نراه يأخذ مسيحيا مديرا لديوانه ، هو غومث أنطونيان ، ويدحض ما قيل عنه ، بقراره القاضي بجعل يوم الأحد عطلة أسبوعية ، عندما تكاثر المستعربون أي المسيحيون العائشون في منطقة إسلامية – حتى يستطيعوا مماشاة طقوسهم وعاداتهم ، فتمتع بتلك الرّاحة مسيحيون ومسلمون ، واستمر العمل بالقرار لقرابة القرنين بعد ذلك.
سأكبح جماح قلمي عند هذا الحدّ وإلاّ تاه بنا في ما لا نهاية له. لأنّ الإسلام دين المعاشرة الحقة ، التي تتجلّى في كلّ مظاهر الحياة ، ولأنّ الإسلام دين: وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ، دين وعاملهم بالتي هي أحسن ، دين ولا تعتدوا ، إنّ الله لا يحبّ المعتدين ، دين فإن كنت فظا غليظ القلب لانفضّوا من حولك ، دين إنّ الله يحبّ المتطهرين ، دين لا يؤاخذكم الله باللغو في السنتكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ، دين لا يكون أحدكم مسلما حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّه لنفسه ، وأكثر من هذا من سامي القيم ، ونبيل المبادئ ، يشير ويوصي بها الإسلام الإنسان أيّا كان ، فلا يكون المسلم مسلما حقّا إلاّ بها وباعتناقها ، وتطبيقُها مكّن ممّا بلغته المدنية الإسلامية من نجاح ، ورقيّ وتقدّم وازدهار ، لا في إسبانيا فحسب ، بل في كلّ مكان ساد فيه الإسلام : اسبانيا وصقلية ومالطة ، والعراق ببغدادها ، وبلاد الشام بدمشقها ، وفي عوالم يعرفها القاصي والداني. هل نحن في حاجة للتذكير بسيرة وسلوك صلاح الدين مع الملك ريتشارد قلب الأسد ، أو سيرة هارون الرشيد وشارلمان ، وغير هذه من النوادر التي ، إن دلت على شيء ، فقد دلّت على تقدّم وازدهار المدنية الإسلامية ، وذلك لا يمكن إلا بالتعايش والمعاشرة السليمتين الحقيقيتين ، لأنّ تلك المدنية وحضارتها لم تنحصر في بلد وجنس ، بل شملت أقطارا وقارات ، بما حوته من أعراق ، وأجناس وثقافات ، لا يسهل التعامل معها والتقدم صحبتها إلا بالمعاشرة في ابهى مظاهرها ، واسمى معانيها.
مدريد في 13 – 9 – 2018


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.