حضرت يوم السبت 6 اكتوبر الجاري بمؤسسة التميمي مثلما تعودت ندوة حول القضاء الاداري أثثها الاستاذ احمد صواب بوصفه كان قاض في المحكمة الادارية لمدة ثلاثة عقود تميز فيها بحركية وجرأة ظهرت نتائجها للعيان فيما كان ينشره ويقوله في وسائل الإعلام بصراحة قلت في امثاله من القضاة الذين يفضلون عادة التحفظ. لقد تفضل في بداية كلامه بكشف جذوره وأصوله ونشأته في وسط عائلة محافظة تعلم منها التواضع وخدمة الغير في المواقع التي وصل اليها بصدق وتفاني على مر السنين وقول الحق وركوب الصعاب والصبر على المكاره وقسوة الزمن وجور السلطان. بهذه التربية والعقلية أخذ على نفسه التمسك بالسير السليم في كل المسؤوليات التي أسندت له في المواقع التي سبقت انخراطه في المحكمة الادارية التي وجد فيها الفضاء المناسب للتفاعل من خلالها مع مجموعة من امثاله كانوا مؤمنين بالعدل والحريّة وتطويع القانون للضعيف قبل القوي بالرغم من المخاطر والاغراءات التي كانت كثيرة وتغري الطامعين. في ذلك المناخ الذي عاشه حدثنا عن المحكمة الادارية بإطناب كبير معتبرا تلك المحكمة استثناء وملجأ للمظلومين ولمن فقد الامل في أخذ حقه زمن سنين الجمر التي مرت بها تونس. لقد اعترف بالفضل الى رئيسها الاول المرحوم عبد السلام الكناني الذي وضع أسسها ومهد لها الطريق لاستقلالها بالقرار وعدم التقيد براي الادارة التي كانت وقتها طليقة اليدين لا يقدر أحد على معارضتها فيما تقول او تفعل بحجة بناء الدولة وضرورة السكوت على التجاوزات الغير المبررة او المقبولة وهي في كل الأحوال كانت مخالفة للقانون وللدستور الذي كانت تفتخر به الدولة امام العالم ولكنها لم تكن تطبقه بحكم السلطة المطلقة التي انفردت بها بدون حسيب أو رقيب حتى تم بعث المحكمة الادارية التي شكلت مع دائرة المحاسبات مجلس الدولة الذي جاء به الفصل 69من دستور 1959. اما المحكمة الادارية موضوع هذا الكلام فكانت تمثل أهم روافده وقد تأخر بعثها الى تاريخ صدور القانون الأساسي عدد 40 المؤرخ في غرة أوت 1972 الوقع اتمامه وتنقيحه لاحقا بعدد من النصوص واصبحت بموجبه تسمى بالمحكمة الادارية العليا. لم يكن اختصاصها وعملها مماثلا للقضاء العدلي الذي سبقها بعقود والذي تخلى عن استقلاله تدريجيا في الفترة السابقة لأسباب عدة لم يقع الحديث عنها يومها في ذلك اللقاء المخصص للقضاء الإداري ولكن ذلك لن يحول دون الرجوع اليه في جلسات قادمة ان شاء الله وعد بها صاحب المؤسسة الدكتور التميمي بكل تاكيد. اما من جانبي فقد قدرت في المحاضر ذاكرته القوية اذ انه كان يستعرض الجزئيات ودقائق الامور التي مرت بها تلك المحكمة بصفته شاهدا عليها وتحدث بكل ود واحترام عن زملائه القضاة فيها الذين كانوا الركن المتين فيها ومن الفاعلين المؤثرين في قراراتها الجريئة معترفا لهم بالفضل والجميل وذكرهم باعتزاز ومحبة مستعرضا بالمناسبة بعض القرارات الاستثنائية التي بقيت في ذاكرته ومنها على سبيل الاستدلال قرار ابطال تركيبة محكمة امن الدولة التي تعهدت بالحكم في قضية القيادة المركزية لاتحاد الشغل المتهمة بالتسبب في احداث الخميس الأسود الذي جرت احاثه يوم 26 جانفي 1978 الشهيرة، ودفع قضاتها بسبب ذلك الحكم ثمنا غاليا تحملوه بصبر واصرار ولم يتراجعوا عن السير في ذلك الطريق السوي الذي اختاروه وتمسكوا به اعلاء للعدل واستقلال القضاء وتطبيق القانون بالرغم من تعرضهم لغظب السلطة بإقالة الرئيس الأول للمحكمة المذكورة السيد رشيد الصباغ الذي كان له الفضل الكبير في ذلك. بتلك المواقف أقامت المحكمة الادارية الدليل على استقلالها وتمسكت بالخط الذي حافظت عليه دأئمة ولم تستسلم بخلاف ما جرى في القضاء العدلي الذي وقع تدجينه تدريجيا وبات في أكثر من مناسبة يأتمر بأوامر السياسيين ورأيناه بعد الثورة كيف يدفع الثمن بعزل مجموعة من قضاته بطريقة اعتباطية مرتجلة ولم يجدوا لإنصافهم نصيرا الا المحكمة الادارية التي قضت ببطلان بعض قرارات الادارة لتجاوزها للقانون الذي طبق في حقهم بتعسف وعاد البعض منهم لوظائفهم سالمين وتمنى ان يتعظوا من ذلك. كما نبه المحاضر الى القرارات المنشورة في دوريات المحكمة لصالح القضاة والمحامين للاستدلال بها كفقه قضاء في أعمالهم مؤكدا بان المحكمة الإدارية التونسية كانت في بعض احكامها اجرا من القضاء الاداري الفرنسي لأنها انحازت للمظلومين وبررت أحكامها تبريرا مطابقا للقانون وللدستور وقد اثار ذلك حفيظة السلطة التنفيذية ولكنها أمسكت عن رد الفعل لان المحكمة الادارية تجنبت الإثارة والحديث في وسائل الاعلام العامة والخاصة اعتبارا للحسية التي كانت تشعر بها لدى السلطة التي كانت تكره ذلك. لم يخف المحاضر عنا النواقص التي اثرت على استقلال القضاء وقراراته ويرد ذلك للقضاة العدليين الذين فرطوا في الواجب المحمول عليهم ولم يتمسكوا بالقانون الذي كان وحده يحميهم. وفي نهاية مداخلته اعترف بالخطأ الغير مقصود الذي وقع فيه القضاة بأنواعهم الثلاثة العدلي والإداري والمالي لما تمسكوا بوجوب تجمعهم في هيئة دستورية واحدة ولم يدركوا المساوي التي ظهرت بعودة الطائفية والقبلية فيهم. كما ندد بالنفرة القائمة بين والقضاة والمحامين والتي ازدادت استفحالا بدون سبب يذكر او دليل. ومن هذا الباب وجدت لنفسي مدخلا لأبين رأيي في القضاء واستقلاله وقد بات محورا للإصلاح المنشود كما كنا نظن ولكننا في الواقع اكتفينا بالشكليات وبإحداث المجالس المستقلة فيه ونسينا ان اصلاح المنظومة كلها لتجاوزها للزمن الذي نعيش فيه وباتت محاكمنا مكتظة بالمتنازعين غارقة في الشكليات وزدنا عليها بإقحامها فيما لا علاقة له بالنزاع اصلا مثل التسجيل العقاري الاختياري والاجباري الذي يعتمد على الخبرة خاصة بعدما توفرت الخرائط المنشورة في المواقع الافتراضية التي تظهر الحدود وكل المكونات بما فيها احواض السباحة في المنازل، ولكننا ابقينا انفسنا رهن الطريقة التي تركها لنا الاستعمار الفرنسي واختارها لتركيز أبنائه المعمرين في تونس. ومثلها قضايا الطلاق التي تكون لغير الضرر والتي بات القضاة يحشرون أنوفهم فيها بدون سبب يذكر وتم إصلاحها في القضاء الفرنسي الذي اخذنا منه ولم يبق من اختصاص المحاكم عنده الا الإطلاق للضرر ومصير القصر، أو قضايا الصكوك بدون رصيد التي باتت النيابة العمومية فيها نصيرا للمتحيلين والمرابين في الساحة. اما عن استقلال القضاء فتلك قضية اخرى لأننا أصبحنا لا نفرق بين استقلال المنظومة واستقلال القاضي لأن هذا الاخير هو المقصود باعتبار ذلك يعود اليه إذا توفت له الضمانات الاساسية مثلما هو كائن في المحكمة الادارية اما المنظومة التي لا تقتصر على القضاة بل تشمل المحامين وعدول التنفيذ وكتبة المحاكم والخبراء العدليين والضابطة العدلية واعوان التنفيذ بما فيهم من يحفظ النظام في الجلسات المفتوحة للعموم وحتى ادارة السجون ان لزم الامر. لم يكن الإصلاح كما تصوره القضاة وتمنوه لأنه في نظري تم بالمقلوب وذلك بتخلص وزارة العدل من الحركة السنوية التي تجرى في سلك القضاة العدليين برمييها للمجلس الأعلى للقضاء الذي بات غارقا فبها وبذلك انتقلت الخصومة للقضاة فيما ببنهم وباتت أعمالهم محل نقد واعتراض وانتهى الطعن الى المحكمة الادارية وبذلك ضاعت القضية واستراحت السلطة التنفيذية التي باتت علينا تتفرج. لم يخف عنا المحاضر ما أصبح شائعا باستعمال القضاة المهنيين للأغلبية المطلقة التي أعطاها لهم المشرع من سوء التقدير الذي وقع فيه القضاة بأصنافهم الثلاثة لما طلبوا بتجميعهم في هيئة قضائية واحدة مختلطة ببنهم وبين المكونات الأخرى التي لهم بها علاقة من محامين وجامعيين وعدول تنفيذ ولكنه باختلال الاغلبية التي باتت من نصيب المهنيين فقد طغت العنصرية والقبلية وباتت القرارات تتخذ فيها بالأغلبية المطلقة المكفولة لهم من جانب واحد وبقي الاخرون ينظرون. ذلك ما اشار اليه المحاضر بحسرة واني أشاطره الراي فيما ذهب اليه. من ذلك يتضح لي اننا لم نتخذ المسار الصحيح وضعنا في الطريق وزدنا في تعكير الحالة التي لا يمكن إصلاحها بتلك الاجراءات المزاجية لان القضاء مرفق أساسي وسلطة من السلط الثلاثة واستقلاله عنها بات أمرا مستحيلا. اما استقلال القضاة في قضائهم فاني أشبهه بمن يكون في الصلاة التي لا تتم الا بالخشوع وعدم قطعها عليه بشؤون الدنيا لذلك يجب على القاضي في مجلس قضائية ان يكون كذلك متقيدا بالأفعال والقانون وخشية ربه لان ذلك من الحالات الاعتبارية التي لا يمكن تحديدها بالقانون. لذلك اقول للأستاذ احمد صواب بصدق شكرًا على المحاضرة ورجائي ان نتعاون على اصلاح القضاء بجدية حتى لا يكون مصيره مثلما انتهى اليه الديوان الشرعي بالحل لأنه وصل الى عدم الجدوى.