بكثير من الاندفاع والتهوّر تحدّث شاب تونسي في القناة الوطنية الأولى عشية يوم السبت عندما كان صحفيو التلفزة يواصلون لليوم الثاني إضرابهم المفتوح، وبينما كان مدير القناة متجها إلى بيته بعد استقالته من مهامه، تحدّث هذا الشاب الذي كان أحد ثلاثة يتكلمون باسم معتصمي القصبة، ومن ثمة وبلا تفويض انتخابي شرعي يتكلم باسم الشعب التونسي!!. نادى هذا الشاب منفعلا بضرورة "إعدام الغنوشي"، ثم لم يُفده في إصلاح هذا الخطأ تدارُكُه النسبي بعد تقديم العنصر المسجل وقولُه : "أنادي بالإعدام السياسي لا الإعدام المادي"، فقد وقعت الفأس في الرأس وحصل المحظور، وما هي إلا دقائق حتى تم إيقاف البرنامج بطريقة مفاجئة ودون تفسير للمشاهدين الذين لم يحضروا الواقعة المذكورة، وبدا واضحا للعيان أن هذه اللقطة قد فعلت فعلها النفسي المؤلم في الوزير الأول التونسي الذي تحدث لقناة الجزيرة ليلتها وعبر عن أسفه الشديد لما حدث وخصوصا لكونه صادرا عن القناة الوطنية الأولى:قناة الشعب... إن هذه الحادثة المؤسفة التي ألقت بظلالها على العملية السياسية وكان دورها كبيرا في تسريع خروج السيد محمد الغنوشي من جهاز الدولة في هذا الظرف الدقيق، هي نتيجة لا سبب وهي نهاية لا بداية كما قد يتوقع البعض، ولئن كان من تداعياتها المباشرة حمْلُ الوزير الأول على الحسم في قرار صعب نادت به حشود المعتصمين في القصبة، فإنها ولا شكّ ستجعل متتبعي الشأن التونسي بمناظير علوم النفس والتربية والاجتماع يقفون على بعض الحقائق التي تشكلت على مدى عقدين من الزمن وتسبب فيها بشكل مباشر نظام الحكم السابق. لقد جعل "بن علي" الدولةَ بلا أسس عقائدية وبلا منظومة قيم حقيقية، فالواقع الثقافي والاجتماعي يكشف اليوم أن قيم الشعارات واللافتات والهتافات الحزبية ليست إلا عملا دعائا صرفا بلا مفعول حقيقي غير التمادي في إضفاء الحكمة على كل فعل رئاسي إلى أن تصل ذاتُ الرئيس إلى مصافِّ الآلهة وتخرجَ من دائرة النسبية البشرية الخاضعة لسلطة النقد والمحاسبة، وقد عمل النظام السياسي السابق على استبعاد ذوي الخبرة والكفاءة في كل الميادين متذرّعا بالتشبيب وتسليم المشعل إلى الأجيال الجديدة، وفي الوقت الذي كان فيه حكماء البلاد يغادرون مواقع استراتيجية هامّة في الجامعات ووسائل الإعلام والهياكل الثقافية بمجرد بلوغهم سن التقاعد الإداري، ظلّ القصر الرئاسي محتفظا بوجوه كان يُفترضُ أن تغادر الساحة نهائيا منذ 7 نوفمبر 1987 لأنها أوصلت نظام الزعيم التاريخي الحبيب بورقيبة إلى الهاوية واستطاعت أن تحافظ هي على مواقعها النافذة عقدين آخرين من الزمن حتى أسقطت نظاما آخر اعتقد الناس في بدايته أنه قد يكون مُبشِّرا بالخلاص دون أن ينتبهوا إلى أنه يحمل في ذاته أسبابَ دماره الذاتي.. تحت هذا الغطاء التمويهي عمل شيوخ القصر على إبعاد الأساتذة الأكفاء وحرمانهم من تأطير البحث العلمي، وإقصاء المبدعين والمثقفين والإعلاميين الكبار الذين لا تملك إلا أن تنحني لهم إجلالا لأنهم نأوا بأنفسهم عن الانسياق وراء الحفلة البنفسجية الرديئة، وتحت شعار الحوار مع الشباب وتمكينه من المسؤولية تمكن كثير من الوصوليين الجدد من احتلال مواقع متقدمة في دوائر القرار.. في هذا المناخ الموبوء وُلِد الشبابُ الذي خرج يوم 14 جانفي إلى الشوارع مناديا بسقوط "نظام بن علي"، والمعتصمُ الآن في القصبة مناديا بسقوط بقاياه، شبابٌ لم يرَ في حياته مرجعا روحيا أو سياسيا يمكن الاطمئنان إليه والوثوقُ به والتتلمذُ على يديه بعد أن صار المعارضون الذين ذاقوا الأمرّين في سجون النظام السابق مطارَدين في مختلف عواصم العالم غيرَ قادرين على التواصل مع النخب الجديدة ومع جيل جديد رفض منطق الولاء الأعمى، لقد صارت الحياة السياسية الوطنية في السنوات الأخيرة ومن خلال الكم الهائل من البرامج التلفزية الرثة بضاعةً راكدةً لا يهتم بها أحدٌ غيرُ المنتفعين منها... وسط هذا اليُتْم السياسي والأخلاقي عاش ذلك الشاب الذي قال في السيد محمد الغنوشي تلك الكلمة الموجعةَ، ووسَطَ هذا الفراغ العقائدي الناتج عن سياسة تجفيف المنابع المعتمدة في نظام تربوي لم يول القِيَمَ والأخلاق ما تستحق من مكانة في التنشئة الاجتماعية، وُلِدَ وعاش جيلُ الصحفيين الذين اختاروا أن يُلقُوا سلاحَهم ويغادروا قلعتَهم للتظاهر والاعتصامِ والمطالبةِ بحقوق كان يمكن الحصولُ عليها بالمراوحةِ بين الضغط والحوار ودون مغادرةِ إطارِ الواجبِ المهني المقدس..، وُلدَ هذا الجيل الذي أنجزَ إنجازا لن ينساه له التاريخ: شلَّ حركة التلفزة والانقطاعَ عن العمل في يوم لعلع فيه الرصاص مُجدَّدًا في سماء العاصمة وسقط الشهداء مُضرّجين بدماء محبتهم العارمة لتونس مجندلين بخيانة المندسّين المجهولين ولامبالاة إعلاميين اختاروا يومها المطالبةَ بتحرير الخط التحريري وانتخابِ مدير المؤسسة!!! .. وسط ذلك المكر الذي ظلّ يتصيّد الخبرة والكفاءة عقدين من الزمن ويغتالهما برصاص التهميش واللامبالاة وبسلاح دعائي فعّال يشرّع لأفعاله الهدّامة بأسباب وجيهة مقبولة كتشغيل الشباب والتعويل عليه في عالم متغيّر مليء بالتحديات، وُلِدَ الجيلُ الجديدُ الذي لم يعرف ممثّلهُ كيف يصوغُ جملة واحدة في التلفزة ، فلو قال مثلا:" إننا لا نطالب فقط بإقالة الوزير الأول بل بمحاسبته أيضا بعد أن سقط شهداء آخرون في عهده"، لما حدثت الزوبعة ولكان الأمرُ عاديا لا يتجاوز حدود الأخلاق السياسية والإعلامية المتعارَف عليها، وهذا بلا شكّ يكشف الجانب الأخطر في قضية الحال، فاللغة الثورية التي ترمز إليها عبارة "الإعدام" حتى وإن كان المقصود بها "الإعدام السياسي" مدلولُها هو التطرف الفكري المرفوض، وهي لغةٌ ولِدت على أنقاض اللغة الخشبية الجامدة التي فقدت مع الزمن طاقتها التأثيرية وباتت مُوجَّهةً أساسًا إلى سيّد القصر الرئاسي وحاشيتِه مُطمئِنةً إياهم إلى أنَّ كلَّ شيءٍ على ما يرام بينما كان سُوسُ الضجر ينخر جسدَ البلاد وروحُ التمرّد تضطرم في أعماق شبابها...