هي شهادة أخرى من الشهادات الكثيرة التي تلقتها مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات بعد الثورة وهو لقاء فكري آخر من اللقاءات الاسبوعية التي أجرتها المؤسسة مع الكثير من الشخصيات الوطنية والفاعلين في الشأن السياسي والاقتصادي والفكري في محاولة لتجميع أكبر قدر ممكن من المعلومات والبيانات حول مرحلة الاستبداد وواقع الثورة وكل ما حف بها من منعرجات وانكسارات من أجل كتابة تاريخية لتاريخ تونس المعاصر تقربها إلى حقيقة ما حصل ومن أجل حفظ الذاكرة التونسية حتى لا يحفها النسيان أو التلاعب أو التحريف فعملية الاستماع للفاعلين الأساسيين بخصوص كل ما حصل من أحداث قبل وبعد الثورة هي عملية مهمة في الكتابة التاريخية المعاصرة التي لم تعد كتابة التاريخ تنجز بعد سنوات من وقوع الأحداث ولحضور من ساهم فيها أو من من عايشها لذلك كانت شهادة القيادي في حركة النهضة الأستاذ المحامي وعضو المجلس التأسيسي وبرلمان الشعب سمير ديلو مهمة وجاءت في وقتها خاصة وأن حركة النهضة تعيش مرحلة دقيقة والبلاد على وقع تقلبات كثيرة وتحولات مختلفة على جميع المستويات وخاصة على المستوى السياسي بعد تصدع العلاقة بين الحكومة والرئاسة وبعد فك الارتباط الذي اعتقد أنه دائم بين حركة النهضة وحزب نداء تونس وتشنج الوضع الاجتماعي بتهديد الاتحاد العام التونسي للشغل تنفيذ اضرابه العام في 17 جانفي الجاري. فكان اللقاء مع سمير ديلو يوم السبت 5 جانفي من الشهر الحالي في جلسة كانت صريحة تفاعل معها الحضور بتوجيه الكثير من الأسئلة المحرجة للضيف التي تلقاها بصدر رحب. تحدث سمير ديلو في هذا اللقاء حول الكثير من القضايا التي تشغل بال الناس وتشكل مواطن حيرة لديهم وخاصة خيبة الأمل التي حصلت بعد سقوط نظام الاستبداد وهروب من كان يمثله ، خيبة أمل من تعثر تحقيق العدالة الاجتماعية المنشودة وتراجع تحقيق وعود التنمية الكثيرة ومن وراء ذلك تردي الوضع الاجتماعي بكامله الأمر الذي تسبب في حالة نفسية سيئة وحيرة تجاه من تسلم مقاليد تحقيق أهداف الثورة وفي هذه الخصوص يعتبر سمير ديلو أن انطباع الناس السيئ من حال الثورة مفهوم وهو وضع يعكس حالة الضرورة التي جعلت الثورة التونسية تحتاج إلى قانون لتعريفها فكان المرسوم عدد 97 المؤرخ في جانفي 2014 الذي عرّف الثورة التونسية على أنها " ثورة الحرية والكرامة " وهذا التعريف يختزل كل أهداف الثورة وأهداف من قام بها ويؤسس للقوة الرمزية للثورة التونسية ويحدد الاتجاه العام وخارطة الطريق لكل السياسيين وكل من يطمح للحكم بأن عليه أن لا ينسى مطلب الحرية وأن لا يغفل على مطلب الكرامة غير أن المشكل الذي وقعنا فيه هو أن النخبة التونسية بكل أطيافها عجزت عن التوفيق بين اللحظتين التاريخيتين الفارقتين لحظة إنطلاق شرارة الثورة يوم 17 ديسمبر 2010 بإقدام الشاب محمد البوعزيزي على حرق نفسه من أجل المطالبة بحقه في الكرامة وحقه في العمل وما يحمل هذا الطلب وراءه من مطلب التنمية والعدالة الاجتماعية ولحظة 14 جانفي 2011 حينما خرج الشعب بكل أطيافه في شارع الحبيب بورقيبة يطالب برحيل النظام ورحيل من تسبب في مصادرة الحريات ومن منع الناس من أن يتنفسوا بكل حرية وارتكب جرائم في حق حرية الرأي والتعبير والكلمة . فما حصل بعد الثورة هو أن النخبة لم تقدر على التوفيق بين لحظة الكرامة ولحظة الحرية بين مطلب التشغيل والتنمية والعدالة الاجتماعية ومطلب الحريات الذي أصبح سقفها عاليا جدا وأكبر من سعة الرئة التي نتنفس بها. يعتبر سمير ديلو أنه طالما لم تنجح العدالة الانتقالية بطي صفحة الماضي ومعالجة مرحلة الاستبداد وفق قاعدة عدم إفلات الجناة من العقاب و دون تشف ولا انتقام فإننا لن ننجح في تحقيق الانتقال الديمقراطي فنحن اليوم نعيش مرحلة الديمقراطية الانتقالية وهي مرحلة دقيقة وصعبة بسبب أن هناك من يعارض الانتقال الديمقراطي وله موقف من الثورة ولا يزال مرتبطا بالمنظومة القديمة وكل المعارك التي نشهدها اليوم حول الموقف من الدستور والموقف من تأويله وتفسيره ومعركة موقع رئيس الحكومة ورئيس الدولة في منظومة الحكم هي كلها من ضمن الصعوبات الديمقراطية الانتقالية وليس خافيا أن هناك اليوم من يريد غلق قوسي الثورة ويروج إلى أن الديمقراطية هي نظام لا يصلح لنا وإنما جعل لغيرنا .. يواصل سمير ديلو في توضيح ملامح مرحلة الديمقراطية الانتقالية وهو المصطلح الذي يستعمله لتوصيف المرحلة الحالية التي نعيشها والصعوبات التي تعترض عملية الانتقال الديمقراطي ببيان أن موازين القوى لم تحسم بعد لصالح قوى الثورة وإنما الصراع لا يزال قائما بين قوى التغيير والثورة وبين القوى التي تعادي الثورة وتريد غلق قوسها لذلك فقد اعتبر أنه من يعتقد ان الشرعية تحسم في زمن الانتقال الديمقراطي من خلال صناديق الاقتراع هو مخطئ فكل الثورات أوضحت أن الحسم في سنوات الثورة الأولى لا يكون من خلال الاقتراع فقط وإنما الحسم والشرعية تمنحها قوى أخرى تكون دوما مرتبطة بالمنظومة القديمة .. اليوم موازين القوى يحددها المشهد الإعلامي الذي في غالبيته ينتمي إلى المنظومة القديمة وتشكل قبل الثورة وإن تجمل وتزين بعدها ويحددها القضاء الذي يحتاج إصلاحا كبيرا حتى يكون سلطة مستقلة غير مرتهنة إلى أي جهة كانت وتحددها بقسط كبير الادارة التي استعملها بن علي ووظفها النظام السابق في التحكم في المجتمع وكل هذه الجهات هي ورشات للإصلاح ولكنها أدوات ومؤسسات لا يمكن أن ينجح الانتقال الديمقراطي من دونها وفي هذا الاطار يقر سمير ديلو أن تقدير حركة النهضة أنه أمام القناعة من أن الشرعية لا تمنحها صناديق الاقتراع فحسب وإنما تتحكم فيها عوامل أخرى من إعلام وقضاء وإدارة عميقة ومشهد سياسي في مجمله من المنظومة القديمة فانه لا يمكن ممارسة الحكم من دون الالتقاء مع من يقبل بمنظومة ما قبل الثورة وبتعبير أكثر وضوح أن أحداث الثورة والمسار الذي سلكته أوضح أنه لا يمكن للثوار أن يحكموا من دون رموز المنظومة القديمة أو من دون المنظومة القديمة في جزئها غير المورط في الجرائم على الأقل. لا يعتبر سمير ديلو أن الالتقاء مع بقايا النظام القديم وممارسة الحكم بالاستعانة بالرموز القديمة خطأ ارتكبته الثورة وإنما هو عملية ضرورية لاختلال موازين القوى ولعدم قدرة قوى الثورة على حسم المعركة مع المنظومة القديمة وللخيار الذي سارت فيه الثورة وهو تحقيق انتقال ديمقراطي خال من روح الثأر وتصفية الحسابات ومن دون استجلاب تجربة الثورات الدموية التي قامت على تصفية منظومة الاستبداد من خلال نصب المشانق والمحاكم الشعبية. تحدث سمير ديلو عن الحلم الجماعي المفقود وعن البديل الاجتماعي الغائب وعن تعثر انجاز القضايا الكبرى التي قامت عليها الثورة وعن تعطل مسار الاصلاحات وعن الخيبات التي حصلت وعن الفساد الذي اتسعت دائرته وانتشر بصفة كبيرة جعلت الكثير من الناس يتوهمون أن وضع بن علي أفضل وتحدث عن الصعوبات التي تعترض كل من مارس الحكم في تحقيق أهداف الثورة .. تحدث عن مسألة عدم جاهزية الأحزاب التي لم تقم بالثورة ولكنها استلمت مهمة الحكم و إدارة مرحلة ما بعد سقوط النظام القديم وعن عدم جاهزية النخبة السياسية لممارسة السلطة وخاصة ما تتهم به حركة النهضة من كونها لم تكن جاهزة للحكم وأنه ما كان عليها أن تحكم بعد الثورة واعتبر أن هذه المسألة كانت محل خلاف داخل مؤسسات الحركة وأن هناك شق داخلها كان يعارض مشاركة النهضة في الحكم ولكن الرأي الغالب كان مع المشاركة لطبيعة الظرف الذي تمر به البلاد والذي يفرض عدم ترك الفراغ بعد تفكك مؤسسات الدولة . تحدث عن موقف النهضة من السلفيين في بداية الثورة لما كانت في السلطة تساهلها معهم وهو اجاء اعتبر خطأ في تقدير الموقف فكانت إجابة سمير ديلو بخصوص تعامل حركة النهضة مع الجماعة السلفية الذي اعتبر تهاونا وتساهلا معها والذي كلف البلاد الكثير من الضحايا هو موقف حتمته حداثة عهد الناس بالاستبداد وقرب زمن الممارسات التعسفية وكذلك سقف الحريات الذي كان مرتفعا جدا فكان التعامل من منطلق ممارسة الحريات من دون التورط في أعمال عنف ولما اتضح أن السلفيين أساؤوا استعمال هامش الحرية الذي منح لهم تم منع تنظيمهم بالقانون . وأما عن الموقف من نظام بشار الأسد فقد اعتبر أن السوريين قد قاموا بثورة مثل التونسيين وطالبوا برحيل بشار الأسد الذي استعمل ضدهم الرصاص الحي وقمع ثورتهم وكان لزاما أن تتخذ حركة النهضة موقفا من النظام السوري وبيان النهضة الأخير الذي فهم منه تحولا في الموقف هو موضوع يفرضه تغير الوضع على الميدان وتطورات حصلت في موقف القوى المتداخلة العالمية والإقليمية علما بأن النهضة ليست لها موقف من القضايا الخارجية وإنما الموقف من هذه القضايا تتخذها الدولة التونسية . في خاتمة هذه الندوة الفكرية خلص سمير ديلو إلي ضرورة التفكير في الحلول الممكنة لمواصلة المسار الثوري وتحقيق الانتقال الديمقراطي وهي حسب ظنه استكمال بناء المؤسسات التي من دونها لا يمكن أن ننتقل إلى نظام ديمقراطي مستقر ومع هذا نحتاج إلى حوار مع المختلف معه وتحرير الخلاف مع الخصوم السياسيين وخاصة الجبهة الشعبية في مواطن سوء الفهم معها وضرورة التقاء الجميع حول مشروع وطني جامع يكون بمثابة الحلم الذي يدفع الشعب نحو الرفاه والتقدم. كانت هذه لمحة عما جاء في شهادة سمير ديلو تحتاج الى اعادة قراءة وتفاعل في جوانب أخرى تم تهميشها تتعلق بالرؤية الاجتماعية والاقتصادية الغائبة وبمسار الانتقال الديمقراطي في حد ذاته والوقوف على بعض المواقف الصادرة عنه في علاقة بقضايا الداخل والخارج وخاصة موضوع السلفيين والاغتيالات السياسية والشأن السوري ومشاغل المواطن التونسي التي تكبله إلى اليوم دون حلول واضحة ورؤية مجتمعية بديلة.