"في الثورة هناك نوعان من الناس،من يقومون بالثورة و من يستفيدون منها" (نابليون بونابرت) "الثورة ليست بتفاحة تسقط عندما تنضج ،عليك أنت أن تجبرها على السقوط" - تشي جيفارا- .. قد لا أجانب الصواب إذا قلت أنّ الديمقراطية التونسية الناشئة تمكنت من خوض تجربتها الانتخابية الثانية بنجاح،من أجل إرساء منطق الانتخاب،بدل فكر الانقلاب والاستحواذ غير الشرعي على السلطة،وهو أمر يمثّل درساً مهماً لكل متابعي هذه التجربة،حيث يمكن اعتبارها دليلاً على حيوية المجتمع السياسي، وسرعة تشكله، وسيره بخطوات ثابتة نحو الوضع الديمقراطي النهائي.. ومن هنا،فإنّ الخريطة السياسة في تونس بدأت تتشكل،ولا شك أن رقعة الشطرنج ستشهد جولات ساخنة وشرسة،رغم أن التموقعات الجديدة،حدثت نتيجة تراكمات زمنية وإستراتيجية وتكتيكية لقواعد حزبية ثابتة . فرغم أن نسبة هامة من الشعب التونسي قاطعت الإنتخابات في 2011 و2014 وبخاصة الشباب.إلا أن هنالك قيمة ثابتة وحجم قار للمصوتين وخاصة منهم قواعد ومناضلي الأحزاب الذين صوتوا بصفة مباشرة لأحزابهم وكلما زاد عددهم كان ذلك لصالح أحزابهم،وللعملية الإنتخابية على حد سواء.. وإذن؟ لقد أعاد التونسيون إذا،تأكيد خياراتهم في الانتخابات التشريعية الأخيرة، التي جرت في 26 أكتوبر الماضي،بعد تقييمهم السلبي لحكم الترويكا،من دون إقصاء -النهضة-مكوّنها الأساسي.وكرّست الانتخابات الرئاسية الفارطة تمديد فترة النقاش العميق حول تشكيل المشهد السياسي الجديد برؤوسه الثلاثة،علماً أنّ جزءا مهمّا من التونسيين حاول إدخال نوع من التوازن السياسي،في مقابل جزء اختار قراءة فرضيات العمل السياسي وجدواه في المرحلة العتيدة.. كما عرفت تونس في اقلّ من شهر انتخابات تشريعية -الأولى من نوعها في تاريخ البلاد- أعادت للمشهد السياسي المختلّ عنصر التوازن المطلوب..تلتها مباشرة انتخابات رئاسية غير مسبوقة أفضت إلى دخول مرشحين اثنين للدور الثاني من السباق نحو -كرسي قرطاج-..في الأثناء انعقد مجلس نواب الشعب وتمّ.. انتخاب رئيسا للمجلس بأغلبية جدّ مريحة بلغت 176 صوت من مجموع 214 شاركوا في عملية الاقتراع.. ثم الانطلاق الفوري في تدارس مشروع قانون المالية وعرضه للمناقشة والتصديق عليه في جلسة عامة علنية تواصلت إلى الساعات الأولى من فجر يوم الخميس الماضي… ولكن..بغض النظر عن المنطق الحسابي،ورهانات الربح والخسارة،لايزال المشهد السياسي في تونس يفتقر إلى الاستقرار بصورة نهائية،بالنظر إلى حالة التشتت الحزبي وغياب القواعد الثابتة للأحزاب،مما سيفضي مستقبلاً-في تقديري- إلى تجمع القوى المتقاربة،إذا أزمعت تأكيد حضورها السياسي. كما أن تجربة الحكم المقبلة التي ستظهر مؤشراتها بعد تشكّل الحكومة المقبلة،لن تكون سهلة بالنظر إلى الاستحقاقات التي ينبغي التعامل معها،خصوصاً في الملف الاقتصادي وكذا الملف الأمني وعلى رأسه موضوع الإرهاب وتداعياته الدراماتيكية على الإستقرار السياسي المنشود،هذه الملفات الشائكة تستدعي وعي عميق بجسامتها ومقاربة شاملة تبحث في الأسباب وتسخلص النتائج عبر رؤية ثاقبة،وهو ما يقتضي نمطاً من التوافق الضروري بين القوى المختلفة،إذا أرادت الحكومة المقبلة أن تحقّق استقراراً ونجاحاً ممكناً في إدارة ملفات المرحلة المقبلة.. على هذا الأساس،علينا أن ندرك جميعا أنّ الديمقراطيات إنما قامت على نمط من الإكراهات، وعلى صراعات سلمية بين القوى المختلفة،لتستقر في النهاية على نمط حكم قائم على توازي السلط وتقابلها ومراقبتها بعضها بعضاً،و كل هذا مشروط بتجنب العنف سبيلاً لحل النزاعات،ذلك أنّ ديمقراطية ما بعد الثورة في تونس قائمة على تعايش مفروض،وتوازن قوى واضح،سيدفع كل الأطراف،وبغض النظر عن أحجامها الانتخابية،إلى الإقرار بحق الجميع في المساهمة في بناء المشهد السياسي المقبل،ضمن الخيارات الكبرى للمجتمع التي تم التنصيص عليها في الدستور التونسي الجديد.. ويكفي أن نتذكّر ما ترتّب عن الحوار بين الفرقاء السياسيين من خيارات سياسية كبرى،تمثلت بالأساس في الإسراع بإكمال إعداد دستور جديد،على الرغم من أن الأمر لم يكن سهلاً،ولا متيسراً.كما ترتب عنه قبول أجندة تقضي بإنجاز الانتخابات التشريعية،ثم الرئاسية،في آجال محددة،وإطلاق الجمهورية الثانية في تونس بصورة لا رجعة فيها الأمر الذي ساعد على تخطي عتبة الانسداد الذي حصل.. ما أريد أن أقول؟ أردت القول أن تونس في حاجة إلى تكاتف كافة مكونات المجتمع المدني وكل القوى السياسية لتثبيت أركان الجمهورية الثانية،ومن ثم انجاز مشروع مجتمعي طموح ينآى بالبلاد والعباد عن مستنقعات الفتن،الإثارة المسمومة والإنفلات الذي يتناقض مع قيم العدالة والحرية،وهذا يستدعي منا جميعا هبّة وعي تكون سدا منيعا أمام كافة المخاطر التي تهدّدنا وتسعى إلى تحويلنا إلى نماذج مرعبة ومخيفة لما يجري في العراق وسوريا وليبيا.. أقول تونس اليوم دولة وسلطة ومؤسسات،أمام امتحان جديد على درب الديمقراطية،ومع على الفاعلين في المشهد السياسي التونسي إلا القطع مع-النهم المصلحي والإنتفاعي-المسيطر عليهم ومن ثم تخطي الطور الانتقالي الجاري بنجاح،ووضع المساطر المناسبة لبنية مجتمعهم السياسية والحزبية،من دون إغفال تطلعات مجتمعهم والشروط العامة التي تؤطرها،وذلك تطبيقا لشروط والتزامات وقيم الممارسة الديموقراطية السليمة والسلوك الحضاري القويم. لقد أنجز الجانب النظري من امتحان الديمقراطية بكتابة دستور توافقي ضامن للحقوق والحريات في بعدها الشمولي،ونحن اليوم-كما أسلفت-على أبواب مرحلة جديدة أشد عسرا وأكثر صعوبة وهي مرحلة تنزيل النظري إلى ارض الواقع وتطبيقه بشكل موضوعي وخلاّق.. وليعلم الجميع أنّ نار الثورة المقدسة التي أوقد جذوتها البوعزيزي،ذات شتاء عاصف من سنة 2010،لن تنطفئ،حتى وإن خفت نورها،لأن الأجيال العربية قد تسلمت مشعلها، وستحافظ عليها، مهما كانت الأثمان.. لست أحلم..لكنه الإيمان الأكثر دقة في لحظات التاريخ السوداء..من حسابات راكبي سروج الثورة في الساعة الخامسة والعشرين.. هل بقي لدي ما أضيف..؟ قد لا أضيف جديدا إذا قلت أنّ هذا الشعب الذي لم يطعن في كبريائه،ولم يفقد كرامته،ولم تنل منه سنوات الجمر،بقدر ما ظلّ يرتّب مواجعه إلى أن تحين لحظة الانفجار،وتهدر السيول لتجرف معها الدكتاتورية العمياء والقهر البغيض. انفجر البركان،وسقط الديكتاتور،بعد أن قال الشعب كلمته المأثورة "ارحل"، قالها بملء الفم والعقل والقلب والدّم.قالها وهو ينزع قيوده ليستجيب القدر لندائه. واليوم،علينا أن نترحّم على أرواح شهدائنا الأبرار،نرتّب ما بعثرته الفصول،وأفسدته السنوات العجاف،سنوات الجمر الأليمة، ونؤسس للجمهورية الثانية بإرادة فذّة،ثم ننشد ألحاناً عذبة وجميلة،إجلالاً وتقديراً للثورة: جايي مع الشعب المسكين جايي تأعرف أرضي لمين لمين عم بيموتوا ولادي بأرض بلادي جوعانين ........ سنين بقينا بلا نوم قررنا نوعا اليوم ويا بلادي لا تلومينا صرنا برات اللوم يا ألوف المظلومين ناطركن دم سنين
(زياد الرحباني)*
*زياد الرحباني (1 يناير 1956 -) هو فنان وملحن لبناني اشتهر بموسيقاه الحديثة وتمثلياته السياسية الناقدة التي تصف الواقع اللبناني الحزين بفكاهة عالية الدقة.تميز أسلوب زياد الرحباني بالسخرية والعمق في معالجة الموضوع،كما أنه يعتبر طليعيا شيوعياً وصاحب مدرسة في الموسيقى العربية والمسرح العربي المعاصر.