يعيش المشهد الحزبي هذه الفترة وفي ظلّ الإستعداد للإنتخابات البلدية المقبلة، حالة من الغليان أفرزتها التشكّلات والائتلافات الجديدة المعلن عنها، في إطار التنافس لخوض غمار هذا الإستحقاق الإنتخابي، وضمان تموقع لها بالخريطة الحزبية الجديدة. ويتشكّل المشهد السياسي الحزبي في تونس من تيارات سياسية كبرى، تتراوح بين القومية واليسارية والدستورية والإسلامية والليبرالية، ومن تنظيمات وقوى حزبية تشهد من فترة إلى أخرى تغييرات تؤدّي إلى تشكّل قوى سياسية جديدة وإندثار أخرى. وتتسم هذه الفترة بالإستعدادات لإعلان بعض الأحزاب عن نوعية قائماتها الإنتخابية، وعدد الدوائر التي ستخوض فيها غمار الإنتخابات البلدية المقرّر إجراؤها يوم 6 ماي القادم. ويعتبر كل واحد من هذه الأحزاب عبر تصريحات قيادييه أنه سيكون البديل الأفضل على الساحة، وأنه القادر على إعادة الحياة السياسية إلى نهجها الصحيح، المتمثل أساسا في خدمة المواطنين وتحقيق التنمية بالجهات عبر إرساء اللامركزية، وتجسيم مبادئ العدالة الإجتماعية التي نص عليها الدستور. * تحوّلات المشهد الحزبي وتجاذباته وفي هذا الصدد، أعلن 11 حزبا عن عزمهم التقدم للإنتخابات البلدية ضمن قائمات موحدة في كل الدوائر الإنتخابية، في إطار إئتلاف حزبي، باعتماد مقاييس موضوعية تضمن مساحة واسعة للكفاءات الحزبية ولمختلف مكونات المجتمع المدني والمستقلين. ويضم هذا الائتلاف كلا من حزب المستقبل وحركة مشروع تونس وحزب البديل التونسي وحزب آفاق تونس وحزب العمل الوطني الديمقراطي والحزب الجمهوري وحزب المسار الديمقراطي الاجتماعي وحركة تونس أولا والمبادرة الوطنية الدستورية التونسية وحزب اللقاء الديمقراطي والحركة الديمقراطية. وإتفقت هذه الأحزاب فيما بينها على خوض غمار الإنتخابات البلدية بقائمات إئتلافية في 48 دائرة إنتخابية، وهو الحد الأدنى الذي تم الإتفاق حوله، مع ترك المجال للجان الممثلة للائتلاف المدني بالجهات، لتكوين قائمات حسب تواجد الأحزاب المكونة للإئتلاف وإشعاعها، ومستوى التنسيق ودرجة التوافق بين مختلف هذه الأطراف. وإثر ذلك تم الإعلان منذ أسبوع خلال ندوة بالعاصمة، عن تركيز "إتحاد مدني" يضمّ هذه الأحزاب، إلى جانب منظمات من المجتمع المدني وشخصيات مستقلة، للعمل أكثر على تجنّب تشتت الأصوات خلال العملية الإنتخابية. وفي تصريحه لوكالة تونس إفريقيا للأنباء، أفاد رضا بلحاج (حركة تونس أول) بأن "الإتحاد المدني" اليوم يرى نفسه البديل الذي سيمكّن من كسر عدم التوازن الذي يشوب المشهد السياسي في البلديات، والقادر على إيجاد قطب وسطي حداثي ديمقراطي جديد للتحضير إلى مرحلة ما بعد البلديات. وبيّن أنّ هذا الإتحاد يهدف إلى إنجاح الإنتقال الديمقراطي، وتعويض الدور الذي قامت به حركة نداء تونس سنة 2014 والذي قال "إنه إنتهى"، معتبرا أن تجربة الإنتخابات البلدية ستفتح الآفاق أمام هذه الأحزاب لمواصلة التشاور والنقاش إلى ما بعد البلديات، في إشارة إلى الإستحقاقات الإنتخابية القادمة لسنة 2019. وحول تقييمه للمشهد الحزبي أكد بلحاج، أن هذا المشهد يعيش تحوّلا يتمثّل أساسا في الإندثار الطبيعي لجزء منه، وبداية صعود أحزاب أخرى، وفق تعبيره، لكنه يواجه مخاطر تتمثل أساسا في تدخّل الدولة لإجهاض بدايات الصعود هذه وإنقاذ ما تبقى من حركة نداء تونس، عبر إقحام عدد من الوزراء في العملية الانتخابية، مبيّنا أنّ هذه المسألة تمثّل خطرا على الإنتقال الديمقراطي، وستعمل على ضرب تطوّر المشهد في تونس. من جهة أخرى، تستعد أحزاب المعارضة بدورها منذ مدّة لهذه الإنتخابات في إطار تحالفات وائتلافات ، فالجبهة الشعبيّة وهي ائتلاف سياسي يضم 13 حزبا يساريا وقوميا، هي من الأحزاب التي تطرح نفسها بديلا قادرا على التصدّي لمشاريع الائتلاف الحاكم وسياساته وإجراءاته، التي طالما أكدت أنها معادية للشعب والوطن، ولأهداف الثورة التونسية. وفي هذا الجانب، قال القيادي بالجبهة الشعبية زياد الأخضر ل (وات)، إنّ المشهد الحزبي اليوم مازال يعيش تجاذبات ومحاولات للتشكل في مشهد يعكس الأزمة التي تعيشها البلاد، بسبب عدم حسم الصراع حول الخيارات الكبرى. وبيّن أن الجبهة الشعبيّة لها خياراتها وضوابطها البرنامجية، القائمة على احترام السيادة الوطنية والدعوة إلى إرساء دولة مدنية حقيقية أساسها مؤسسات متوازنة تكرّس قيم الحرية والديمقراطية وإحترام حقوق الإنسان، وغيرها من المسائل التي تتطلب إجراءات حازمة، مضيفا أنها بصدد إستكمال تشكيل قائماتها الإنتخابية للمشاركة في المحطة الإنتخابية القادمة، والخروج بتمثيلية محترمة في المشهد الذي سيفرزه صندوق الإقتراع. وبخصوص التشكلات والتحالفات الجديدة في خضم الإستعداد للإنتخابات البلدية على غرار "الإتحاد المدني"، صرح الأخضر بأنّ أغلب الأحزاب المكوّنة لهذا الإتحاد هي "شظايا" لحركة نداء تونس، وتعمل على تجميع نفسها إحترازا منها من إمكانية تغوّل الحزب الأم (النداء) وحليفه حركة النهضة. ولفت في هذا الجانب، إلى انّ الجبهة لا يمكن أن تلتقي مع هذه الأحزاب برنامجيا سوى في بعض النقاط الضئيلة المتعلقة أساسا بضمان التعددية داخل الساحة السياسية وحماية الحقوق والحريات. أما في ما يتعلق بمبادرة تجميع اليسار، التي أعلن عنها الوزير السابق والنقابي عبيد البريكي موفى الأسبوع الفارط تحت إسم "تونس إلى الأمام"، فقد أكد زياد الأخضر أن الجبهة الشعبية ليست مالكة للتوجه اليساري الذي جعلت منه بعض الأطراف اليسارية مصطلحا فضفاضا إلى حدود طمس الخلافات بينه وبين اليمين، على حد تعبيره. وإعتبر أن ما تم الإعلان عنه ضمن مبادرة تجميع اليسار، هو شبيه بما تم الإعلان عنه سابقا في أوروبا وكان مصيره الفشل، مضيفا أن الجبهة تعتبر أنّه لن يكون لهذا التشكل والتحالف أفق جديد. بدوره صرح الأمين العام لحزب التيار الديمقراطي غازي الشواشي ل (وات)، بأنّ المشهد الحزبي اليوم مازال ظرفيا وغير مستقر، وسيشهد مستقبلا تحولات ستؤثّر على التموقع الحزبي، خاصة وأنّ الحزب الفائز في الانتخابات سنة 2014 (في إشارة إلى حركة نداء تونس)، قد انقسم إلى عدّة أحزاب وهو المصير نفسه الذي كانت ستلاقيه حركة النهضة جراء صراعات داخلية تعيشها، نتيجة رفض القواعد لتمشي المكتب السياسي للحركة ولهياكلها المركزية. وقال إنّ حزب التيار الديمقراطي يسعى إلى لمّ شمل العائلة الإجتماعية الديمقراطية في إطار جبهة وسطية، كما أنه منفتح على خيار الإنصهار مع الأحزاب التي تشترك معه في ذات التوجّه استعدادا للإنتخابات القادمة، مؤكدا في هذا الإطار، أنّ المشهد السياسي سيتشكّل من جديد بتحالف الأحزاب وفق توجهات عامة. وأفاد بأنّ حزبه سيشارك في الإنتخابات البلدية بقائمات مشتركة ثنائية مع عدد من الأحزاب على غرار الجبهة الشعبية وحركة الشعب وحراك تونس الإرادة والتكتل من أجل العمل والحريات في بعض الجهات، لعدم قدرته على تقديم قائمات حزبيّة خاصة به أو مع مستقلين، نافيا أن يكون هناك ائتلاف إنتخابي رغم إنفتاح حزبه على بقية الأحزاب التي تتوفر على أرضية مشتركة وتتقارب معها. * التموقع وصراع الصدارة إن أغلب الأحزاب التي تبحث لها عن تموقع اليوم في المشهد الحزبي، اتخذت من الأحزاب التي تتصدّر المشهد كحركة نداء تونس وحركة النهضة منطلقا لحملتها الإنتخابية سواء البلدية أو التشريعية والرئاسية المرتقبة سنة 2019 ، رافضين في هذا الجانب التوجّه الذي أقره الحزب الحاكم بتشريك عدد من الوزراء في العملية الإنتخابية، أو عودة حركة النهضة إلى الواجهة. وإعتبرت أن إسناد مسؤوليات حزبية من الصفّ الأوّل، في علاقة مباشرة بالانتخابات البلدية القادمة لفريق كامل من أعضاء الحكومة الحالية يعد "قرارا يدعو إلى القلق"، معتبرين أن قبول الحكومة بهذا التوجه الاستراتيجي هو "تقدير سياسي غير مسؤول لا يعمل من أجل المصلحة العليا للبلاد". ولفتوا إلى أنّ الجمع بين المهام الحزبية والحكومية رسالة سلبية جديدة للشعب التونسي، وتهديد لشفافية ونزاهة الإنتخابات المقبلة. وفي هذا الصدد، يرى الناطق الرسمي باسم حركة نداء تونس منجي الحرباوي، أنّ الديمقراطية لا تنفي مشاركة عضو من الحكومة أو أي مسؤول في الدولة من ممارسة السياسة، مبيّنا أنّ مشاركة وإنخراط بعض الوزاراء في العملية الإنتخابية قانونية ومعمول بها، وإن مواقف بعض الأحزاب من هذه المسألة يتنزّل في إطار حملات التشويه استعدادا للإنتخابات المقبلة. وأكد أن هؤلاء الوزارء يتحلون بالكفاءة وقادرون على عدم الخلط بين الدولة والحزب، وأنّ أي إشكال في هذا الصدد يمكن الحسم فيه عبر القضاء، مشيرا إلى أنّ حركة نداء تونس تسعى إلى المحافظة على مكانتها التي تصدّرتها إثر انتخابات 2014 ومنذ الإعلان عن تأسيسها سنة 2012. وذكر في هذا الإطار، بأن حزبه قدّم الكثير للمشهد السياسي، عبر إحداث التوازن الذي ضمن إستمرار المسار الديمقراطي وعودة الدولة الحديثة وتحقيق الأمن، بعد أن كادت تونس تتحوّل إلى إمارة داعشية. كما إعتبر أنّ حركة نداء تونس قد توفقت في تحقيّق نجاحات إقتصادية وسياسية، وستظلّ في المراتب الأولى بفضل حرصها على كسب رهان الإنتخابات البلدية، وتقديم قائمات إنتخابية في 350 دائرة انتخابية. ولاحظ أنّ المشهد السياسي مازال بصدد التشكلّ، وأن التحالفات المعلن عنها تتطلب الكثير من المصداقية خاصة بين الأحزاب المشكلة لها حتى لا يكون مصيرها الفشل، مثلما حصل لجبهة الإنقاذ والجبهة البرلمانية اللتين تشكلتا من التركيبة نفسها المكونة لهذه الأحزاب. بدوره أكد الناطق الرسمي باسم حركة النهضة عماد الخميري، أن حالة التشكل والائتلافات التي يشهدها المشهد الحزبي، مردّه التحضير للإنتخابات البلدية وعجز هذه الأحزاب عن دخول الإستحقاق الإنتخابي بقائماتها الخاصة. وأوضح أن المشهد الحزبي اليوم لا يمكنه أن يستقرّ إلا بعد الإنتخابات البلدية، مبينا أن حركة النهضة ستخوض غمار هذا الإستحقاق بقائماتها الخاصة مع إنفتاحها على المستقلين القادرين على إدارة العمل البلدي، حتى يكون لها حظوظ أوفر في النجاح. يشار إلى أن حركة نداء تونس، كانت أعلنت في إطار الإستعداد للإنتخابات البلدية، عن إحداث هيئة وطنية ستعمل على متابعة العملية الإنتخابية والإشراف على القائمات الإنتخابية، وعن تكليف 29 مفوّضا من قياديي الحركة من بينهم وزراء بالحكومة بكافة التنسيقات الجهوية التابعة للحركة لمتابعة العملية. أما حركة النهضة فقد عبّرت عن جاهزيتها نسبيا لهذه الإنتخابات، منذ الإعلان عن الموعد الأول للإنتخابات الذي كان مقررا يوم 17 ديسمبر 2017 ، قبل أن يتم تأخيره إلى موعد 25 مارس القادم، ومن ثمّة إلى يوم 6 ماي 2018 بطلب من عدة أحزاب بعد التشاور مع الهيئة العليا المستقلة للإنتخابات. * الإستقطاب القديم وتحرّك المعارضة وفي هذا الإطار، أكّد أستاذ القانون الدستوري ورئيس شبكة "دستورنا" جوهر بن مبارك، أنّه لا يوجد تطوّرات جدية يشهدها المشهد الحزبي اليوم، مبيّنا أنه بصدد إعادة التشكّل بين الأحزاب والقوى السياسية التي تنتمي إلى نفس الفضاء السياسي، والتي تفرّعت سابقا عن حركة نداء تونس وذلك إستعدادا للإنتخابات القادمة. وإعتبر أنّ أغلب هذه الأحزاب لها الخيارات والتوجهات نفسها، وسبق لها أن دخلت بعد إنتخابات سنة 2014 في إئتلاف مشترك في إطار "وثيقة قرطاج" وحكومة الوحدة الوطنية، مبيّنا أنّ أغلبها عمدت اليوم إستعدادا منها للإنتخابات البلدية القادمة والمواعيد الإنتخابية التي تليها، إلى إحياء الإستقطاب القديم القائم على الحداثي والإسلامي، وذلك بالإبتعاد عن حركة النهضة رغم تحالفهم معها سابقا. وبيّن في هذا الصدد، أن هذه المسألة توضّحت أكثر بعد قرار حركة نداء تونس مقاطعة حركة النهضة إثر الإنتخابات الجزئية بألمانيا، ومن بعدها قرار حزب آفاق تونس والحزب الجمهوري وحركة الشعب الإنسحاب من "وثيقة قرطاج"، رغم إلتفافهم حولها في السابق بالمشاركة او دعم حكومة الوحدة الوطنية. وأوضح أن غاية هذه الأحزاب المنسحبة أخذ المسافة الضرورية من حركة نداء تونس وتنشيط قواعدها الإنتخابية، معتبرا أن ذلك غير ممكن نظرا لإستحالة إعادة سيناريو سنة 2014 ، وتنظيم حملات إنتخابية قائمة على أساس الإستقطاب. وأكد أن الإستقطاب الحقيقي يقوم اليوم على الخيارات الإقتصادية والإجتماعية، وهي مسائل تشترك حولها كافة الأحزاب بما فيها حركة النهضة، مؤكدا أنّ التحركات التي يعيشها المشهد الحزبي ليست عميقة ولا تدل على وجود قطيعة سياسية، وإنما تتنزّل في إطار تكتيكات تتعلّق بالتموقع في الإنتخابات القادمة. في المقابل، لاحظ بن مبارك أنّ التطوّر والتحرّك داخل أحزاب المعارضة خاصة الجبهة الشعبية وحزب التيار الديمقراطي، يعتبر أكثر تطوّرا وعمقا من تحرّك الأحزاب المحسوبة على السلطة، مبيّنا أن صعود النائبة سامية عبو عن التيار الديمقراطي وتصدّرها لاستطلاعات الرأي العام دليل على ذلك، ويشير إلى أنّه سيكون للمعارضة تأثير على الإنتخابات القادمة. (وات(