تعود بي الذاكرة إلى الأيام الأولى بعد الثورة وإلى الفترة التي تلت سقوط النظام القديم الذي سمح بفتح ملفات كان الحديث فيها في السابق محتشما أو ممنوعا ومناقشة قضايا فكرية كان يصعب معالجتها بكل حرية وموضوعية وقد كان صالون الصريح لما كانت الجريدة ورقية منبرا حرا فتحه صاحبها للرأي والرأي الآخر والفكرة ونقيضها وأذكر وقتها أن القضايا التي كانت تنشر في الصالون كانت ساخنة والنقاشات حادة ومن القضايا التي أعيد طرحها والحديث فيها بكل حرية المسألة البورقيبة وفترة حكم الزعيم بورقيبة وتاريخ الحركة الوطنية والصراع اليوسفي البورقيبي وقد كانت البطاقات والمقالات التي تحبر بخصوص هذه الأخيرة متشنجة ومنتصرة بعنف وقوة إلى أحد الزعيمين وما رافق ذلك من اتهامات بالقتل والتآمر وخيانة القضية الوطنية و كنت قد انخرطت بدوري في هذا النقاش الفكري بكتابة عدد من المقالات حول الرئيس بورقيبة مع مراقبتي لما يكتبه غيري وقد حصلت لي قناعة بأنه مع أهمية ما كنا نكتبه في الصالون حول الزعيمين بورقيبة وبن يوسف وقيمة ما ننتجه من معرفة لتأسيس وعي جديد يحقق المصالحة المطلوبة مع تاريخنا الوطني إلا أن الأهم من كل ذلك هو إنهاء هذا الصراع المدمر والذي قسم الشعب التونسي وهو صراع ذهب مع أصحابه وأضحى من مسائل التاريخ وبقينا نحن نعيش على مخلفاته وقد كانت الفكرة وقتها أن تكون الصريح سباقة في تحقيق هذه المصالحة من خلال تقريب وجهة النظر بين الأخوة الأعداء البورقبيين واليوسفيين وأن نعكس الموضوع ونطرح على الناس سؤالا افتراضيا يقول ماذا سيكون عليه حال تونس لو آل الحكم بعد الاستقلال إلى صالح بن يوسف ؟ وهل كان سيتغير وجه البلاد وتكون أفضل لو انتهى الصراع بين الزعيمين إلى بن يوسف عوض بورقيبة ؟ فتم الاتفاق على إعداد ملف أجري من خلاله حوارا مع بعض المؤرخين والمثقفين والسياسيين من عائلات فكرية مختلفة حتى يكون الحوار مفيدا وليس في اتجاه واحد وحتى نقف على حقيقة فكر صالح بن يوسف كما فعلنا مع بورقيبة ويكون مدخلا لإجراء مصالحة تنهي الخصومة التاريخية فكان الاختيار على أديب عرف بورقيبة عن قرب وهو المرحوم أبو القاسم محمد كرو وعلى شخصية مثقفة معروفة بتوجهاتها الديمقراطية فوقع الاختيار على عيسى البكوش المنتمي إلى الشق الديمقراطي في الحزب الدستوري والذي شغل منصب الأمين العام لاتحاد طلبة تونس الذي انقلب عليه بورقيبة أما في الجانب التاريخي فكان الاختيار على مؤرخ من العائلة اليسارية وهو السيد عميرة عليّة صغير ومؤرخ قريب من التيار اليوسفي وهو السيد محمد ضيف الله وكان لزاما أن نختار معارضا للرئيس بورقيبة فوقع الاختيار على الدكتور سالم لبيض وحتى نحقق قدرا من الموضوعية والتوازن كنت في حاجة إلى شخصية بورقيبية وازنة فتم توجيهي نحو السيد مصطفى الفيلالي الذي اتصلت به وعرضت عليه الفكرة والسؤال الافتراضي فرحب بإجراء حوار معه لطرافة الموضوع ولأهميته لأنه حسب تقديره سؤال جديد لم يطرح من قبل قد يفتح الأعين على حقيقة صالح بن يوسف ويحقق قدرا من الانصاف لبورقيبة ويخفف من حدة الصراع بين الرجلين على أن يكون الحوار بمنزله بجهة رادس. كان الزمن شهر رمضان والفصل صيف والتوقيت الرابعة ظهرا أي ساعات قليلة قبل موعد الافطار .. كنت لا أعرف منزل المرحوم الفيلالي إلا من خلال السيد عيسى البكوش الذي قال لي إن الرجل أشهر من نار على علم في منطقته فحينما تصل إلى رادس اسأل أي شخص سوف يدلك على منزله فكان العمل كذلك ومن شخص إلى آخر وصلت أخيرا إلى منزل مصطفى الفيلالي الذي يقع في منطقة مرتفعة طرقت جرس الباب بعد لحظات فتحت لي الخادمة وقادتني إلى غرفة الجلوس وقالت لي إن السيد الفيلالي في انتظارك استغلت الفرصة لألقي نظرة على المكان كان غرفة عادية ومحتواها يدل على أنه يعود إلى زمن قديم ويعطى فكرة على أن الرجل رغم مكانته السياسية يعيش في بيت عادي كسائر البيوت التونسية. بعد دقائق قلية وجدت أمامي السيد مصطفى الفيلالي بقامته القصيرة وشعره الأبيض وكان يحمل معه كنشا صغيرا كان قد كتب فيه ارقام هواتف كل الذين يعرفهم وهم كثيرون ابتسم في وجهي ورحب بي ودعاني للجلوس أمامه . دام الحوار قرابة الساعتين تناولنا خلالهما الكثير من القضايا في علاقة بشخصية صالح بن يوسف وبفكره ونشأته ونضاله وخلافه مع بورقيبة وما يميزه عنه والعوامل التي أثرت في مسيرته السياسية وهل أثر انتماؤه الطبقي في اختياراته السياسية فهو على عكس بورقيبة ينتمي إلى عائلة مرفهة تمتهن التجارة مما جعل توجهاته محافظة ليبرالية ويميل إلى النزعة القومية العروبية وهذا ما يفسر علاقته المتينة بالباي وبالمشرق . حدثني الفيلالي عن علاقة بن يوسف بالمال ونظرته للمرأة ومفهومه للإصلاح الاجتماعي وحدوده عنده وكيف انه لا يتوفر على الجرأة التي لدى بورقيبة للإقدام على اصلاحات جذرية تغير من الوضع الاجتماعي للبلاد حدثني عن فكره السياسي وكيف انه كان يميل نحو الفكر الكولونيالي وانه لا يختلف كثيرا عن بورقيبة في موضوع الديمقراطية .. حدثني عن علاقة بن يوسف بالزيتونيين ونظرته للمسالة الدينية مما علق في ذهني مما قاله لي المرحوم مصطفى الفيلالي في هذا اللقاء أننا نحمد الله على أن الحكم قد آل إلى بورقيبة وإلا لكنا اليوم مثل كل البلدان الخليجية ولكنا تخلفنا كثيرا عن ركب الحداثة ولكنا اليوم نعيش في اطار حكم ملكي دستوري .. خرجت من هذا الحوار مع مصطفى الفيلالي بانطباع ان الرجل موسوعة فكرية فما هو معروف عنه انه نقابي ومناضل وسياسي وأديب ولكني في هذا الحوار اكتشفت مصطفى الفيلالي المؤرخ الذي يحدثك عن جزئيات في تاريخ الحركة الوطنية بكل دقة وبرؤية مقنعة . ما اثار انتباهي هو أن محاوري رغم انه كان بورقيبيا ومنتصرا للفكر البورقيبي ومدافعا شرسا عن خياراته إلا أنه لم يكن معاديا لبن يوسف ولا حاقدا عليه بل كان يؤلمه ما حصل من تناحر بين الزعيمين .