عاجل/ قضية وديع الجرئ..تطورات جديدة وهذا ما تقرر في حقه..    إتفاقية تعاون بين وزارة التشغيل والتكوين المهني وبرامج ابتكار الأعمال النرويجي    الرائد الرسمي : اسناد امتياز استغلال المحروقات "سيدي الكيلاني" لفائدة المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية بنسبة 100 بالمائة    بطولة مدريد للماسترز: أنس جابر تواجه السلوفاكية آنا كارولينا شميدلوفا في الدور الثاني    القبض على مقترفي عملية سرقة مؤسسة سياحية بقليبية واسترجاع المسروق..    الإطاحة بثلاثة مروجي مخدرات أحدهم محل 12 منشور تفتيش وهذا ما تم حجزه..    الحماية المدنية: 21 حالة وفاة خلال ال24 ساعة الأخيرة    بنزرت: تفكيك شبكة مختصة في تنظيم عمليات الإبحار خلسة    باجة: وفاة كهل في حادث مرور    المنستير : حريق بسيارة '' تاكسي فردي''    هوليوود للفيلم العربي : ظافر العابدين يتحصل على جائزتيْن عن فيلمه '' إلى ابني''    الليغ 2: علي العابدي يرفع عداده .. ويساهم في إنتصار فريقه    تونس تعمل على جمع شمل أمّ تونسية بطفلها الفلسطيني    عاجل/ هجوم جديد للحوثيين في البحر الأحمر..    لطفي الرياحي: "الحل الغاء شراء أضاحي العيد.."    أمطار غزيرة: 13 توصية لمستعملي الطريق    بطولة كرة السلة: برنامج مواجهات اليوم من الجولة الأخيرة لمرحلة البلاي أوف    كأس إيطاليا: يوفنتوس يتأهل إلى النهائي رغم خسارته امام لاتسيو    نحو المزيد تفعيل المنظومة الذكية للتصرف الآلي في ميناء رادس    يهم التونسيين : اليوم.. لحوم الأبقار الموردة موجودة في هذه الاماكن    عاجل : منع بث حلقة للحقائق الاربعة ''فيقوا يا أولياء    جندوبة : تطور أشغال جسر التواصل بين هذه الولايات    مبعوث ليبي ينقل رسالة خطية إلى الملك محمد السادس    حزب الله يعلن استهداف موقع إسرائيلي بعشرات الصواريخ..#خبر_عاجل    نموذج أوروبي: الأمطار متواصلة في تونس الى غاية الأسبوع القادم    فاطمة المسدي: 'إزالة مخيّمات المهاجرين الأفارقة ليست حلًّا للمشكل الحقيقي'    المنستير: افتتاح الدورة السادسة لمهرجان تونس التراث بالمبيت الجامعي الإمام المازري    بورصة تونس: بورصة تونس تبدأ الأسبوع على ارتفاع مؤشر «توننداكس»    تحذير صارم من واشنطن إلى 'تيك توك': طلاق مع بكين أو الحظر!    رسالة من شقيقة زعيم كوريا الشمالية إلى العالم الغربي    لن تصدق.. تطبيق يحتوي غضب النساء!    الاقتصاد في العالم    القطاع الصناعي في تونس .. تحديات .. ورهانات    أريانة: إزالة 869 طنا من الفضلات وردم المستنقعات بروّاد    الطقس اليوم: أمطار رعديّة اليوم الأربعاء..    تنبيه: تسجيل اضطراب في توزيع مياه الشرب بعدد من مناطق هذه الولاية..    مشاركة تونس في اجتماعات صندوق النقد والبنك الدولي .. تأكيد دولي على دعم تونس في عديد المجالات    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    جربة: جمعية لينا بن مهني تطالب بفتح تحقيق في الحريق الذي نشب بحافلة المكتبة    رئيس مولدية بوسالم ل"وات": سندافع عن لقبنا الافريقي رغم صعوبة المهمة    الناشرون يدعون إلى التمديد في فترة معرض الكتاب ويطالبون بتكثيف الحملات الدعائية لاستقطاب الزوار    وزارة المرأة تنظم ندوة علميّة حول دور الكتاب في فك العزلة عن المسن    الاتحاد الجزائري يصدر بيانا رسميا بشأن مباراة نهضة بركان    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    الألعاب الأولمبية في باريس: برنامج ترويجي للسياحة بمناسبة المشاركة التونسية    أولا وأخيرا .. الله الله الله الله    فيروسات ، جوع وتصحّر .. كيف سنواجه بيئتنا «المريضة»؟    توزر.. يوم مفتوح احتفاء باليوم العالمي للكتاب    إكتشاف مُرعب.. بكتيريا جديدة قادرة على محو البشرية جمعاء!    يراكم السموم ويؤثر على القلب: تحذيرات من الباراسيتامول    جندوبة: السيطرة على إصابات بمرض الجرب في صفوف تلاميذ    مصر: غرق حفيد داعية إسلامي مشهور في نهر النيل    ردا على الاشاعات : حمدي المدب يقود رحلة الترجي إلى جنوب إفريقيا    بطولة ايطاليا : بولونيا يفوز على روما 3-1    وزارة الخارجية تنظم رحلة ترويجية لمنطقة الشمال الغربي لفائدة رؤساء بعثات دبلوماسية بتونس..    بعد الجرائم المتكررة في حقه ...إذا سقطت هيبة المعلم، سقطت هيبة التعليم !    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



علي الجليطي يكتب لكم/ في أدب الرحلات: جولة عبر نهر «الدانوب»
نشر في الصريح يوم 13 - 02 - 2019

عندما وصلنا مدينة الساحل اللازوردي "نيس" جنوب فرنسا في ربيع 2017 كانت السماء صافية والشمس مازالت مشرقة حيث حطت الطائرة بهدوء في موعدها. وكان ذلك بمثابة المفاجأة حيث طالما عهدنا من خطوطنا التونسية في هذا الزمن الرديء عدم احترام التوقيت الموعود وأصبح الزمن رخيصا جدا في تقاليدها. وفعلا أول ملاحظة طالعتها من الغد على صفحات الفايسبوك جاءت من احد المسافرين الذي عبر عن امتعاضه من هذه العادة السيئة التي دأبت عليها خطوطنا الوطنية... لا علينا فهذه بعض من علامات التخلف التي تفشت في مفاصل بلادنا والتي نرجو الإقلاع عنها في مستقبل قريب... لنعد إلى مدينة الأحلام في الجنوب الفرنسي المشهورة بشارع "الجولة أو الفسحة الانقليزية" حيث تشعر بالسعادة وراحة البال ساعة مرورك بذاك الشارع الطويل الذي ينطلق غربا من المطار ويمتد على طول شاطئ البحر وينتهي بتلك الربوة الساحرة في أقصى شرق المدينة...
كانت فرنسا يومئذ تستعد لمعرفة وزيرها الأول الجديد بعد انتخابات 2017 حينما نجح "ايمانويل ماكرون" في خطف زهرة الرئاسة من بين الجميع ولما أعلن عن اسم وزيره الأول "ادوارد فليب"... كان محللو الصحافة يميلون في اغلبهم إلى نعته بكاسر شوكة اليمين وبالسكين الذي طعن به ظهر اليمين باعتبار أن الوزير الأول كان من اقرب الناس إلى احد قادة المعارضة اليمينية "ألان جوبي"... لقد كان الهدف في نظر المراقبين خلخلة الحزب الجمهوري الذي خسر الانتخابات الرئاسية مثله مثل الحزب الاشتراكي الذي بدورة لم يتمكن مرشحه من الوصول إلى الجولة الثانية بل أن رئيسه "فرنسوا هولاندا" تخلى عن السباق حتى قبل أن يبدأ وهو الذي ترأس الحزب على امتداد 11 سنة... كانت مدينة نيس في هذا اليوم تنعم بشمس الربيع رغم أن ربيع قائدها السياسي المحنك "استروزي" قد أصبح خريفا بعد أن انسحب من رئاسة محافظة الجنوب الشرقي "الباكا" واكتفى بدور المساعد في البلدية...كان يخطط لموقع في حكومة ماكرون ولكن قد تجري الرياح بما لا تشتهي السفن...
لم نقم بهذه المدينة الساحرة سوى يوم وبضعة ساعات قبل أن نغادر بالطائرة إلى النمسا بلد الجمال والموسيقى وعاصمتها فيينا مدينة التاريخ والحروب التي كانت عصية على جيوش إمبراطورية السلطان العثماني...وصلنا في اقل من ساعتين إلى مدينةٍ سرعان ما تبهرك بخضرة محيطها وبأناقة مطارها ودقة مواعيد قطاراتها...لقد مررنا من الطائرة إلى بهو المطار إلى محطة القطار في اتجاه ألمانيا - نقطة انطلاق جولتنا – وكأننا في حلم...جمال ونظافة وسلاسة بدون رقيب أو حسيب...وكان الأمر في الحقيقة مدعاة للتساؤل في هذا الوقت بالذات حيث بات الجميع في أوروبا ينادي بغلق الحدود ودعم المراقبة وتوخي الحذر الشديد من عمليات إرهابية محتملة في كل حين. ومع ذلك كان الوضع مدهشا فقد كان مرورنا سلسا إلى درجة التوجس من هذه المرونة المفرطة لولا علمنا واقتناعنا بوجود أمن خفي ومستتر ومراقبة تكنولوجية غير مرئية ومتابعة يقظة. وكل ذلك بفضل مزايا اتفاقية شنغن التي تحمل مسؤولية كبرى للدولة التي يمر منها المسافر في أول عبور للحدود الخارجية الأوروبية.
توجهنا من مطار فيينا عبر القطار نحو مدينة "باسو" الألمانية وجلسنا في العربة إلى جانب كهل أنيق بادرنا بلغة موليير بالتحية من أول وهلة فرددنا بأحسن منها. قال مبتسما لقد عرفت أنكما من تونس بفضل لهجتكم ذات الطابع الفرنسي الصرف. ابتسمنا بدورنا وسألناه إن كان زار تونس من قبل. فرد بالإيجاب وكانت مناسبة للحديث عن الوضع المؤلم السائد في هذه الفترة . لقد عاش الرجل في تونس مستثمرا منذ سنة 1987 وكان يشعر فعلا بالأسف الشديد لما آلت إليه الأوضاع في هذا البلد الجميل مما جعله مضطرا للمغادرة نهائيا والاستقرار في بلده فرنسا. كان الحديث مشوقا رغم الألم الظاهر على وجه محدثنا ولكن وصول القطار إلى محطة "باسو" في موعده المحدد بالثانية وضع حدا لهذه الدردشة.
هذه المدينة تقع في الجنوب الشرقي الألماني على الحدود بين ألمانيا والنمسا ويفصل بينهما نهر الدانوب وتبعد عن فيينا حوالي 300 كلم. وقد علمت من سائق التاكسي الذي حملنا من وسط المدينة إلى المرفأ النهري أن الطريق على طول هذه المسافة إلى غاية العاصمة النمساوية يحذوها على اليمين مسلك مخصص لسواق الدراجات الهوائية. وتكنى مدينة "باسو" بمدينة "الأنهار الثلاث" حيث يتفرع الدانوب إلى 3 فروع تعبر كلها من وسطها واشتهرت من ناحية أخرى بعمقها التاريخي والديني حيث عرفت بكنيستها ذات الطابع الباروكي "سانت آتيان" ذات أجراس الاورغ الأكبر في العالم.
على طول الميناء في حي "الليندو" اصطفت البواخر السياحية في انتظار حرفائها القادمين من كل حدب وصوب استعدادا للسفر بهم عبر نهر الدانوب. جمال طبيعي أخاذ في منطقة مليئة بالغابات ومحيط منظم ومنسق على الطريقة الألمانية لا تضاهي فيه النظافة سوى ما تميزت به المدن النمساوية سليلة العبقرية الراسخة منذ إمبراطورية "الهابسبورغ" التي كانت تجمع بالخصوص بين ألمانيا والنمسا والمجر. كانت البواخر السياحية تعج بالمسافرين واغلبهم من المسنين وطبيعي أن لا تستهوي مثل هذه السياحة فئات الشباب الميال أكثر للحركية والسرعة والمغامرة فيما تركز سياحة البحر والأنهار على التروي والراحة وطول النفس...
رحلت بنا الباخرة وهي تمخر عباب النهر ليلا إلى أن وصلت مدينة "ملك" Mulk النمساوية وعندما استيقظنا صباحا كانت الشمس مشرقة وكأنها رافقتنا من "نيس" أو فرت من تونس إلى هذه الربوع هاربة من سمائها المكفهرة. حتى دليلنا في الحافلة - التي كانت تقلنا إلى أكبر دير في كامل النمسا- انطلق حديثه الممتع بالتعليق على هذا الطقس العجيب الذي ظل منذ يومين فقط اقرب إلى ثلج الشتاء منه إلى حرارة الصيف...كانت لكنة الدليل السياحي ألمانية واضحة ولكن لغته الفرنسية متقنة رشيقة ونكاته التي ينثرها بين الحين والآخر تبعث في النفوس البهجة والانشراح. دخلنا دير مدينة "مُلك" الذي شيد سنة 1702 واستكمل بناؤه سنة 1736 متربعا على ربوة تطل على سهل "واشو" Wachau ومتوسطا حقولا خضراء تسحر الألباب. كان الدير في البداية قصرا يضم في أجنحته -لسنين عديدة- الأب الأول الملك جوزيف صانع إمبراطورية النمسا وهنغاريا قبل أن يستوطنه مجموعة من الرهبان لا يتجاوز عددهم 33 نفرا ويشتغلون فيه زرعا وغراسة. ويحتضن الدير مدرسة يؤمها حوالي 800 تلميذا وبه 12 مكتبة تضم مؤلفات من القرن الخامس ميلادي إلى غاية 2017 ، ومجموع الكتب فيها يفوق 100 ألف ... تلك هي قيمة العلم والمعرفة في بلد كان فيما مضى إمبراطورية يقطنها خلال القرنين الثامن والتاسع عشر حوالي 50 مليون نسمة قبل أن يتم تفكيكها مع الحربين العالميتين.
ونحن نتجول في أجنحة الدير- القصر مستمعين إلى تعاليق الدليل، كنت اشعر في قرارة نفسي بنوع من الغيرة من هذه الحضارة العريقة ومآثرها عندما سرى في ما يشبه الفرح وأنا اكتشف في البهو لوحة دعائية تنبئ بنشاط أدبي ثقافي عنوانه "تقديم كتاب إدريس الشرايبي: نبوة محمد" . لم يكن لدي علم مسبق بهذا الكتاب ولو أن اسم صاحبه ليس غريبا فهو الروائي والصحافي المغربي المشهور بروايته "الماضي البسيط " والمعروف بتفرغه للكتابة والإبداع الأدبي في القصة والرواية منذ الخمسينيات إلى أن توفي سنة 2007. لم اسمع من قبل بهذا الكتاب ولكن مجرد مثل هذا الحدث في قلب هذا القصر أشاع في نفسي شعورا بالفخر والارتياح لتواصل هذا الحوار الثقافي بين الأديان في زمن سمته حسب البعض صراع الحضارات والمقصود بالطبع بين الحضارتين الغربية والإسلامية. وعندما رجوت من الدليل ترجمة ما في اللوحة من مضمون نظر إلي مستفهما" هل أنت مسلم؟ فقلت بكل تأكيد: نعم...مسلم تونسي...مسلم حقيقي ولست مزيفا...فابتسم قائلا: طبعا فهمت مسلما ...وليس إسلاميا.. وتبادلنا نظرات تترجم تلك السحابة التي تغشي منذ سنوات سماء الإسلام والمسلمين في مغارب الأرض ومشارقها.
تواصلت الرحلة من الغد في مدينة فيينا عاصمة الإمبراطورية حيث يقطن حوالي مليون ساكنا من جملة 8 مليون في النمسا. وهي فعلا عاصمة فريدة بمبانيها وشوارعها ونهرها الشهير "الدانوب" حدائقها الغناء التي وضعها كبار المهندسين تحت إشراف رجل عظيم باني نهضة البلاد الإمبراطور جوزيف... يذكره التاريخ لحكمة قيادته ومآثره على بلاده فقد طبع ببصمته تاريخها وحضارتها وعمرانها وهدد يوما بوضع حاجز أمام قصره حتى لا يقع نظره على عمارة قبالته شيدت بهندسة "عصرية" لا طعم فيها من الفن الهندسي العريق ولا رائحة من تاريخ تلك المدينة الشامخة. كان من بعض رفاق الرحلة فرنسيون توطدت معهم العلاقة فلم يجدوا حرجا من مباغتتنا بإظهار انبهارهم بحضارة هذه المدينة وشموخ عمرانها وما تتميز به من نظافة وروعة هندسية أنستهم ولا شك عراقة باريس وبقية المدن الفرنسية. ولم نعلق كثيرا عندما تذكرنا ما تعيشه بلادنا من تفكك وتقهقر حضاري وعمراني وبيئي... أما النظافة والخضرة ومنظر الزهور المنمقة في الحدائق والأشجار التي ترفرف بظلالها على ضفاف نهر الدانوب فهي لا تحتاج إلى مزيد من المقارنات...
مررنا أمام مقر إقامة الإمبراطور وأمام البرلمان وقاعة المسرح الملكي والأوبرا ... وأمام تلك الشواهد التي تخلد رموز الإمبراطورية من جوزيف وماري تيريز وبيتهوفن الى غيرهم من عظمائها في التاريخ قبل أن يحل بنا الرحال بمقهى "هولكا" حيث تناولنا تلك القهوة النمساوية "الميلانج" وهي خليط من القهوة والحليب تقدم للحريف في محيط يعبق برائحة التاريخ حيث حافظ صاحب المقهى على نمطه منذ بداية القرن العشرين عندما كان كبار الشخصيات الفنية ترتاده لقضاء سويعات من الراحة والانشراح على غرار الممثلة الشهيرة "رومي شنايدر" ...كيف ندخل هذا المكان ولا نفعل مثلها في مثل هذا الموقع الساحر ولو لبضعة لحظات... أما من يريد زيارة أكبر معلم ثقافي في النمسا فعليه بزيارة قصر "شونبرون" Schonbrun الذي بات من ضمن التراث العالمي وفق منظمة اليونسكو والذي عرف أوجه تحت رعاية الإمبراطورة ماري تيريز اذ يضم 1441 غرفة وقاعة ويتحول عقب الاحتفال بمولد المسيح نويل إلى سوق لعرض المنتوجات التقليدية ومختلف الصناعات اليدوية التي تستعمل في مثل هذه المناسبة الدينية.
من "فيينا" الساحرة... إلى "بودابست" العريقة
و"لينتز" عاصمة الملح الأوروبي
وصلنا من فيينا عبر نهر الدانوب إلى بودابست عاصمة المجر. وهو اليوم بلد صغير ولكنه كان في الماضي كبيرا بمساحته وسكانه وحضارته. تم احتلال المجر أكثر من مرة وغزته قبائل التتار وفعلت به ما يفعل العدو بعدوه فحرقت الأخضر واليابس...وغزته جيوش العثمانيين وتركت في قلوب المجريين حقدا دفينا ما زالت آثاره إلى اليوم وتتجلى بالخصوص عندما يتحدثون عما جرى لكنائسهم من مسح وكل ما يمت إلى دينهم بصلة من المعمار...والمجريون هم إحدى القبائل السبعة التي أعطت اسمها لهذا البلد العريق الضارب في التاريخ وعرفت عاصمته ثلاث مراحل آخرها بودابست وهي جمع لعبارة "بودا" أي المرتفع أو الهضبة و "بشت" (حسب النطق بالشين) أي السهول المترامية على ضفة نهر الدانوب.
ويقطن العاصمة بضواحيها حوالي 2 مليون ساكن وهي على غرار المدن الواقعة على ضفاف النهر مشهورة بجسورها العظيمة وعددها سبعة شيدت على مدى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ومنها جسر "اليزابيت" وجسر "الحرية" وجسر "الملك فرنسوا جوزيف" باني حضارة الإمبراطورية في كل من النمسا والمجر أو "هونغاريا" التي تعتبر حسب الاسطورة السائدة جمع بيم عبارة "الهان" إحدى القبائل السبع وعبارة "غاريا" وهي تحوير لكلمة الغول بالفرنسية « ogre » والله اعلم.
ومن أهم معالم بودابست بناية البرلمان الذي يضم بين أحضانه مقر مجلس النواب المجري والمكتبة الوطنية وهو رمز لوحدة العاصمة التي نشأت سنة 1873 بوحدة كما ذكرنا بين "البودا والبشت"، وتم تدشين البرلمان سنة 1896 ولكنه لم يحتضن النواب إلا اعتبارا من سنة 1902. وتقع قبالة هذا المبنى المترامي على ضفاف النهر هضبة "البودا" وتسمى كذلك هضبة القصر أي القصر الملكي الذي يحتضن المتحف التاريخي للمجر ويعد من التراث العالمي إذ يعود تشييده إلى القرن الثالث عشر قرب كنيسة "سان ماتيو" التي يعود بناؤها إلى 700 سنة خلت.
تواصلت بنا الرحلة من العاصمة الى إحدى المدن السياحية المجاورة "غودو لو" Godo lo حيث الأخوان "لازار" وهما أبطال العالم 19 مرة في سباقات العربات المجرورة بالخيول المتلاحمة. وقد قام الأخوان في رحاب غابة شاسعة بتشييد منتزه ضخم به كل ما يتصل بحياة وتربية الخيول. والموقع اخضر جذاب بين سهل وربوة في مقدمته مبنى استراحة يتم فيها استقبال الضيوف من السياح بمشروبات كحولية تقليدية يتناولها سكان المنطقة ومن بينها ما يسمى ترجمة "المعطف الداخلي" كناية عما يثيره من حرارة شديدة في جسم شاربه قبل التوجه إلى العمل في فصل الشتاء القارس حيث تصل درجة البرد إلى حوالي 15 تحت الصفر. انطلقت بنا الجولة فوق مركبة يجرها أربع خيول قبل أن تقدم الفرقة العاملة برنامجا حافلا به نماذج من التمارين الرياضية المبهرة فوق ظهور الخيول المدربة أحسن تدريب.
في اليوم التالي انتقل بنا دليل الرحلة إلى مدينة( Szentendre – St. André) "سانت اندري"، وهي قرية سياحية متكئة على سفح جبل على شاكلة سيدي بوسعيد التونسية ولكنها تعج بكنائسها المتعددة ومطاعمها المتنوعة ومقرات العديد من الفنانين الذي اختاروا الإقامة بها. وتتميز المدينة بأزقتها وكثرة حوانيتها التي تباع فيها كافة أنواع القماش والمنتوجات التقليدية بأثمان معقولة. ويمكن القول أن المدينة جمعت في أحضانها بقايا العهد العثماني وأثار المهاجرين اليونانيين والسلوفاك. وباتت في النهاية معقلا لكثير من "السلاف" وخاصة منهم طائفة "الصرب".
اما مدينة "استراقوم" (Esztragom) فهي العاصمة الدينية للمجر وبها مقر إقامة ملوكها الأوائل حيث يعتلي القصر الملكي قمة الجبل وبها اكبر كنيسة في البلاد شيدت في القرن التاسع عشر بعد أن غزاها العثمانيون سنة 1543 . ولا تبعد المدينة كثيرا عن الحدود بين المجر وسلوفاكيا أين تتجلى شدة المفارقة بين بلدين كانا على مدى القرون الماضية ضمن بوتقة واحدة قبل أن يفرق بينهما الدهر بأحكام سياسية جائرة تركت آثارها في قلوب الناس وتعمقت بفعل الزمن بدلا من محوها.
سلوفاكيا عاصمتها براتيسلافا وترجمتها إخوان النصر تضم حوالي 450 ألف نسمة ويتميز نسيجها بتنوع طوائفها مثل السلت والروم والمايو واليهود وتحتضن المدينة متاحف متنوعة منها الأثري والتاريخي والثقافي اليهودي والتقني، فضلا عن المعرض الوطني والمسرح الوطني. عاشت سلوفاكيا كثيرا تحت سيطرة النظام الشيوعي عندما كانت موحدة مع تشيكيا وعندما انهار النظام الشيوعي طالب الطرفان الحصول على الاستقلال فكان لهما ذلك سنة 1993 قبل أن ينضم كلاهما إلى الاتحاد الأوروبي...واليوم تستشعر بصورة جلية مدى الغيض بل الحقد الذي يسري في نفوس سكان سلوفاكيا ضد حكم الشيوعيين. ويذكرون بكل حزن ما قام به أبناء ماركس ولينين وستالين من عنف وتدمير في البلاد...وما يتجلى أكثر هي تلك العقدة والشعور بالذنب مما لاقاه اليهود من ضيم إبان الحرب الكونية الثانية إذ غالبا ما يتخلل الحديث ما تركته الجالية اليهودية من أثر عميق ليس فقط في معمار هذا البلد بل وأيضا في نفوس سكانه. ولا ننسى أن مؤسس الصهيونية اليهودي هرتزل عاش غير بعيدا من هنا أي في المجر وبالذات في بودابست.
والى جانب هذا الأثر اليهودي البارز في حياة هذه الشعوب لابد من ذكر العمق الفني والمعماري الذي يشهد به تاريخها بفضل أسماء شهيرة من أمثال موزار وبيتهوفن ومهندسين كبار شيدوا قصورا ضخمة وكنائس مبهرة وجسورا عظيمة على نهر الدانوب. وكل هذه الانجازات هي شواهد على عراقة وقوة هذه الشعوب التي ارتقت إلى القمة وسقطت إلى الحضيض في أكثر من مرة ولكنها سرعان ما تعود وتبني من جديد ما دمرته الغزوات والحروب...وربما تلك هي احدي معاني الحياة.
اختتمت هذه الجولة عبر نهر الدانوب بزيارة مدينة لينتز Lintz عاصمة النمسا العليا والتي كانت محط أنظار القوى المهيمنة في القرون الوسطى إلى غاية القرن التاسع عشر باعتبارها عاصمة لتصدير الملح. قضى بها الإمبراطور الهبسبوري فريدريك الثالث سنواته الأخيرة من الحكم ثم خسرت المدينة موقعها السلطوي لفائدة فيينا وبراغ بعد وفاة الإمبراطور سنة 1493. ومع الحرب العالمية الثانية أصبحت لينتز مدينة صناعية بامتياز وعاصمة لمعدن الحديد باعتباره أساس صناعة الأسلحة قبل أن تكون سنة 2009 عاصمة للثقافة الأوروبية.
ومما يعرف عن هذه المدينة اشتهارها بصناعة أقدم مرطبات في التاريخ بل تختص بعض المقاهي فيها بتقديم طورطة لذيذة لروادها تحت مسمى Linzer Torte... وعلى هذا الطعم اللذيذ اترك القراء للقاء جديد مع سلامي وتحياتي للجميع.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.