الحدث البارز في المدة الأخيرة والذي لفت إليه انتباه الكثير من التونسيين هو القضية التي نظرت فيها الدائرة المتخصصة في العدالة الانتقالية بالمحكمة الابتدائية بتونس يوم الخميس 16 مارس الجاري والمتعلقة بإعادة فتح ملف عملية الاغتيال التي تعرض لها الزعيم والمناضل الوطني والأمين العام للحزب الدستوري السابق صالح بن يوسف يوم 12 أوت من سنة 1961 بأحد نزل مدينة فرانكفورت بألمانيا بعد أن تحصلت هيئة الحقيقة والكرامة على ملف الاغتيال مع وثائق ارشيفية من السلطات الألمانية بها معلومات خطيرة تكشف أطوار وملابسات الواقعة مع تحديد هوية المتهمين والمنسوبة إليهم تهمة القتل العمد مع سابقية الإضمار والمشاركة في الجريمة وعددهم ستة ، ثلاثة منهم تم حفظ التهم بحقهم بموجب الوفاة وهم الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة وحسن بن عبد العزيز الورداني والبشير زرق العيون أما المتبقون فهم عبد الله بن مبروك الورداني ومحمد بن خليفة محرز والذين لم يقع سماعهما إلى اليوم بسبب عدم توفر عنوان معلوم لمقريهما أما المتهم السادس فهو حميد بنتربوت فقد وقع سماعه من قبل هيئة الحقيقة والكرامة. والسؤال الذي يطرح نفسه لماذا هذه القضية اليوم خاصة وقد مر على وقوعها أكثر من نصف قرن ؟ وما الجدوى من محاكمة أشخاص فارقوا الحياة والتحقوا بالرفيق الأعلى ؟ وماذا سنجني ونستفيد من وراء إعادة فتح ملف قديم أصبح من ذاكرة التاريخ ؟ أليس في اعادة فتح ملف الاغتيال إحياء لجراح قديمة بين الإخوة الاعداء وإذكاء لفتنة من الزمن القديم تعود إلى فترة الاستقلال وإذكاء لروح الانتقام ؟ وفي المقابل هل من الضروري ونحن في مسار عدالة انتقالية بعد ثورة قمنا بها على النظام القديم أن تكون لنا الجرأة لفتح كل الملفات المنسية والتي قسمت التونسيين لعقود من الزمن لنعالجها بكل هدوء و شجاعة حتى ننتهي مع كل المظالم التي ارتكبتها دولة الاستقلال بحق الكثير من التونسيين ومن بينهم العائلة الزيتونية واليوسفية التي طالها انتهاك كبير بعد الاستقلال ؟ أليس من الأجدى أن نداوي كل جراح الماضي بعد معرفة حقيقة ما حصل دون تشف ولا انتقام لنمر بعد ذلك إلى الاعتذار والمصالحة حتى ننتقل إلى المستقبل من دون أن نحمل معنا أوزار الماضي وصراعات مربكة وحتى نضمن أن لا تعاد الانتهاكات من جديد وحتى يعيش أبناؤنا من دون حمل ثقيل من المظالم التي لم تسو ؟ صحيح أن هذه المحاكمة التي تقع اليوم بحق الضالعين في عملية اغتيال صالح بن يوسف وفي مقدمتهم الراحل الرئيس الحبيب بورقيبة قد لا تضيف جديدا في المسألة بعد أن كشفت العديد من الدراسات التاريخية التي قام بها أساتذة جامعيون وبعد المقالات الصحفية الكثيرة التي تناولت الحادثة والكتب التي ألفت حول الخلاف اليوسفي البورقيبي والشهادات التي أدلى بها رفاق الشهيد صالح بن يوسف وكذلك تقارير الخارجية الفرنسية منذ عهد بورقيبة عن أغلب المعلومات والتفاصيل الدقيقة للحادثة خاصة وأن الرئيس بورقيبة كان في الكثير من خطبه التي ألقاها في الستينات والسبعينات من القرن الماضي يتباهى بتصفية خصومه اليوسفيين وغيرهم وكان لا يخفي ضلوعه في تصفية خصمه السياسي صالح بن يوسف ولا يخجل من ذلك وقد اعترف هو نفسه في إحدى خطبه بأنه هو من أعطى الأوامر كي تتم تصفية صالح بن يوسف وكلنا يتذكر كيف كان في خطبه يردد قولته " قص الراس تنشف العروق " و " يد بورقيبة طويلة وتضرب كل من يتطاول عليها " قد تكون هذه المحاكمة لا تضيف جديدا يذكر بعد الكم الهائل من المعطيات التي تم تداولها ولكن رغم ذلك لا يمكن أن ننكر أن إعادة فتح ملف اغتيال صالح بن يوسف وتقديم قضية لدى القضاء التونسي بعد مضي أكثر من نصف قرن على اغتياله للنظر في ملابسات عملية القتل وتحديد مسؤولية الضالعين في هذا الاغتيال قد كشفت عن حقائق جديدة أبرزها الشهادة المهمة التي أدلى بها نجل صالح بن يوسف لطفي بن يوسف الذي قدم خصيصا من أمريكا والتي كشف من خلالها عن معطيات جديدة و مهمة تزيد من توضيح ما حصل وتكشف ملابسات حادثة الاغتيال قد تعين المؤرخ المنصف على إعادة القراءة التاريخية للأحداث ولمى لا إعادة كتابة أحداث مرحلة تاريخية مهمة ومفصلية من تاريخ تونس المعاصر قد تحقق المصالحة بين الشعب وتاريخه بعد أن يزول الغموض حول موضوع اغتيال صالح بن يوسف ونتعرف على الحقيقة كاملة . في هذه المحاكمة قدم نجل صالح بن يوسف شهادة مهمة جاء فيها أن أصل الخلاف بين والده وبورقيبة كان حول الرؤية المختلفة للزعيمين من مستقبل تونس بعد الاستقلال في علاقة بالموقف من فرنسا الاستعمارية وخلاف آخر حول طبيعة العلاقة بين الدولة التونسية ومحيطها المغاربي والعربي حيث ظهر من خلال خطاب الرجلين أنهما يمثلان مشروعين وتوجهين مختلفين فبورقيبة حسب نجل صالح بن يوسف كانت له رغبة في الابقاء على القوى الاستعمارية وتواجدها في البلاد مع مسايرتها والتعامل معها في حين كان لبن يوسف توجه آخر يميل إلى ادماج تونس في محيطها الوطني والإقليمي والمغاربي والشمال إفريقي لذلك كان بن يوسف متحمسا ومنخرطا بقوة في نشاط قمة دول عدم الانحياز وقد كان يوم اغتياله يستعد للسفر من ألمانيا والتوجه نحو غينيا لحضور مؤتمر قمة دول عدم الانحياز وعندما احتد الخلاف بين الطرفين خلال الليلة الفاصلة بين 27 و 28 جانفي 1956 بلغت معلومات إلى والده مفادها أن البوليس الفرنسي سيقوم باقتحام محل سكناه للقبض عليه فما كان منه إلا أن غادر البلاد عبر البر نحو ليبيا في حين سافر هو ووالدته وشقيقه إلى القاهرة ليلتحق بهم صالح بن يوسف فيما بعد . والإضافة الأخرى في هذه الشهادة ما جاء على لسان والدته المرحومة صوفية زهير التي ذهبت خلال سنة 1956 وبعد أن احتد الخلاف بين الرجلين إلى الرئيس بورقيبة و كانت تعتبره صديق وزميل كفاح زوجها وكان يقضي أيام مرضه في بيتهم بمنطقة منفلوري بالعاصمة برفقة زوجته الأولى مفيدة وقالت له : لماذا لا تتصالح مع صالح بن يوسف فتونس ستكون أفضل معكما فما كان من الحبيب بورقيبة إلا أن رد عليها بقوله " ولدي لو يوقف في طريقي نقضي عليه " إضافة أخرى قدمها لطفي بن يوسف في شهادته تخص ما قاله بشير بن يحمد في مقابلة تلفزيونية وكان وقتها وزيرا للإعلام في عهد الرئيس بورقيبة من أنه خلال سنة 1956 أي 5 سنوات قبل اغتيال صالح بن يوسف كان ذات يوم يمشي بمعية الرئيس بورقيبة ووزير آخر وتكلم الرئيس باللغة الفرنسية قائلا ما معناه " يجب القضاء عل هذا الرجل " وكان يقصد صالح بن يوسف ثم تراجع مسرعا قائلا " يا للهول ماذا قلت " ومنذ ذلك التاريخ عاش صالح بن يوسف في القاهرة رفقة عائلته أي من سنة 1957 إلى 1961 سنة اغتياله. ويضيف نجل صالح بن يوسف أنه خلال سنة 1961 وعندما بدأ وضع الجزائر يتضح وبدأت تستعد للاستقلال من الاحتلال الفرنسي بقيادة جبهة التحرير الجزائرية التي كانت تربطها علاقات عميقة مع صالح بن يوسف الذي كان يدافع عن خيار استقلال تونسوالجزائر في إطار استقلال كامل المنطقة من الاستعمار الأجنبي وأنه لا يمكن فصل استقلال تونس عن استقلال الجزائر والمغرب حاول بورقيبة اقناع صالح بن يوسف بالعودة إلى تونس في لقاء جمعهما في نزل بمدينة زوريخ السويسرية وكان هذا اللقاء متوترا للغاية واحتد فيه النقاش والخلاف حول مصير البلاد بعد الاستقلال وانتهى الاجتماع دون اتفاق وفي هذا اللقاء قال بن يوسف جملته الأخيرة التي سوف يكون لها تداعيات خطيرة والتي لن يشفع له بورقيبة بسببها ويبدو أنها كانت محددة في موته و كانت هي الجملة التي جعلت بن يوسف يحكم على نفسه بالإعدام حيث قال متوجها بالكلام إلى بورقيبة " لقد خنت الشعب الجزائري وخنت الثورة الجزائرية " في اشارة إلى أن النظام التونسي كان يعتبر علاقة بن يوسف بالجزائر المستقلة خطرا كبيرا على النظام التونسي أخطر من بقائه مع عبد الناصر في القاهرة. من الحقائق المهمة التي كشفت عنها هذه الشهادة أن الدولة الألمانية بأجهزتها الأمنية كانت على علم تام بأن عملية اغتيال ترتب ضد صالح بن يوسف من قبل النظام التونسي ولكنها خيرت التكتم على الأمر وعدم التدخل تحت تهديد بورقيبة بقطع العلاقات بين البلدين اذا ما تم إفشال عملية الاغتيال حيث اثبت التقرير الذي قدمه الوكيل العام الألماني آنذاك و تحصلت هيئة الحقيقة والكرامة على نسخة منه من أن ألمانيا قد خيرت آنذاك الصمت عن الجريمة رغم توصلها حينا إلى معرفة القتلة وأسمائهم ومكان تواجدهم الذي كان بأحد النزل في سويسرا قبل مغادرتهم إلى تونس بجوازات سفر مدلسة ولم تقم بإيقافهم بعد ورود رسالة من سفارة ألمانيابتونس تعلمها بأن زرق العيون ومن معه مقربين من الرئيس بورقيبة وأن اتخاذ أي اجراء تجاهه سوف يعرض العلاقات التونسية الألمانية إلى انقطاع طويل الأمد. وآخر هذه المعلومات التي قدمها نجل صالح بن يوسف عن والده أن عائلته قد تعرضت إلى قمع شديد في وسائل الإعلام التونسية المرئية والمسموعة والمكتوبة التي انحازت بالكلية إلى الرئيس بورقيبة ولم تتعاط مع الحدث بحيادية وموضوعية ولم تسع وقتها للبحث عن الحقيقة ومورس عليه طيلة سنوات تشويه إعلامي كبير فضلا عن المحاصرة التي تعرضت لها العائلة من طرف النظام التونسي بعد الاغتيال وما تعرض له كل من اراد مساعدة العائلة من تهديد وتخويف الأمر الذي اضطر والدته أن تطلب اللجوء السياسي إلى القاهرة أين استقرت هناك بعد أن خصص لها الرئيس جمال عبد الناصر جراية واحتضنها واستقبلها بكل حفاوة وترحاب وهو جميل لن تنساه العائلة للنظام المصري من عبد الناصر إلى حسني مبارك. إن المفيد في هذه المحاكمة التاريخية التي كانت ترمي إلى إجلاء حقيقة الاغتيال الذي تعرض له الزعيم الوطني صالح بن يوسف على أيدى أجهزة دولته هو القول بأن ما حصل يوم 16 ماي الجاري لم يكن محاكمة للزعيم بورقيبة وهو ميت بقدر ما كانت مناسبة لغلق الملف اليوسفي البورقيبي نهائيا بعد أن يتم التعرف على كل الملابسات التي حفت بعملية الاغتيال وبعد أن تحدد المسؤولية السياسية فيمن كان وراء الاغتيال ؟ وفيمن أعطى الأمر بالقتل ؟ وفيمن حمى القتلة ووفر لهم الحصانة ؟ وبعد أن نتعرف على الأشخاص التي تولوا التنفيذ وبعد أن نتعرف على الدور الذي لعبته الأجهزة الأمنية الألمانية ومن ورائها الدولة الألمانية في التستر على الجريمة حفاظا على العلاقات الدبلوماسية بين البلدين وبعد أن نتعرف على الحقيقة كاملة فيما حدث في ذلك التاريخ من الزمن المبكر من الاستقلال. قيمة هذه المحاكمة التاريخية تكمن في رمزيتها و في كونها قد أعادت الاعتبار لزعيم وطني أبعد من التاريخ وتم تشويهه لفترة من الزمن وأنصفت الآلاف من التونسيين من دستوريين ويوسفيين ومستقلين تم اعدامهم وتعرضوا للإيقاف والاعتقال والاغتيال والتهجير والاضطهاد في الفترة الممتدة من سنة 1957 الى سنة 1987 بسبب ولائهم لليوسفية. واليوم بعد انعقاد هذه المحاكمة الاستثنائية التي شكلها مسار العدالة الانتقالية فإن ما تطلبه عائلة الشهيد صالح بن يوسف هو جملة من المسائل الأولى الاعتراف من طرف الدولة التونسية بأن الجريمة التي ارتكبت في حق والدهم هي جريمة دولة يتحمل فيها النظام السياسي كامل المسؤولية مع تقديم اعتذار رسمي على ما قامت به أجهزة الدولة وضلوعها في هذه الجريمة السياسية ممثلة في رئاسة الجمهورية ووزارة لداخلية التي كان على رأسها بشير زرق العيون و وزارة الخارجية التي كان يمثلها الطيب المهيري . والثانية رد الاعتبار لصالح بن يوسف ودوره في تاريخ الحركة الوطنية . والثالثة اعادة كتابة تاريخ الحركة الوطنية في الفترة التي حصل فيها الخلاف بين بورقيبة وبن يوسف حتى يذكر دور صالح بن يوسف في كل ما تحقق من استقلال للبلاد وحتى لا يبقى الزعيم بورقيبة هو الفاعل الوحيد في التاريخ في حين تغيب عن هذا التاريخ زعامات أخرى أثرت بقوة في النضال الوطني كان بن يوسف واحدا منهم وحتى يعرف جيل اليوم تاريخهم الحقيقي وليس التاريخ الرسمي الذي كتبته دولة الاستقلال برؤيتها هي فقط . والمطلب الاخير هو الغاء كل الاحكام المجحفة التي اصدرها بورقيبة وحكم بها على بن يوسف بالإعدام في سنة 1957 وسنة 1958. في اعتقادنا إن قيمة هذه المحاكمة التي بدأت فصولها اليوم هي في الأصل محاكمة للمؤرخين الذين ساهموا في كتابة تاريخ تونس بعين واحدة وروجوا لقراءة واحدة للأحداث وانخرطوا في الترويج لسردية السلطة الحاكمة لوقائع الحركة الوطنية وهي محاكمة لمن كتب تاريخ تونس منقوصا ومشوها و لكل من انخرط في قراءة للتاريخ حصرت كل الفضل وكل الجهد في الزعيم الأوحد وأقصت كل الفاعلين الآخرين من مناضلين في حركة التحرر الوطني إنها محاكمة كل من كتب تاريخ البلاد بعقلية المنتصر وعقلية الحاكم بأمره وأثثت لذاكرة تاريخية منقوصة وموجهة فجاءت سردية هؤلاء للتاريخ الوطني مبتورة وغير مقبولة من طرف طيف كبير من الشعب التونسي الذي يريد اليوم أن يتصالح مع تاريخه بعد أن تكشف الحقيقة كاملة وبعد أن تعاد القراءة ويعاد الفهم والكتابة لفترة مفصلية من تاريخ الحركة الوطنية كان صالح بن يوسف مع غيره فاعلا محوريا فيها لا يقل قيمة عن الزعيم الحبيب بورقيبة.