يا بني وطني.. لنصارح بعضنا البعض ولنتفق على أن المرحلة الحالية من حياتنا تتطلب منّا ذلك بل تفرضه علينا فرضا.. ألم نتعظ من التجارب السابقة.. ألم نقتنع بعد بأن المراوغة والزّيف لا يؤديان إلا إلى سوء المصير.. هل جنى الذين كذبوا علينا ومثّلوا علينا واستبلهونا.. غير الخزي والعار.. ألم يرحلوا عنّا.. غير مأسوف عليهم.. لماذا نقلدهم إذن.. ولماذا نفعل بأنفسنا ما كانوا يفعلونه بنا.. هذه كلمات.. قد وجدتها تغلي بداخلي كالمرجل ورغم تجنبي لقولها.. فلقد فرضت عليّ نفسها.. وألزمتني.. بالتعرض لها.. وبذكرها.. أما لماذا فعلت بي ذلك.. فلأن بعض ما يحصل عندنا هذه الأيام.. قد مثل السبب المباشر له.. أشرح وجهة نظري وأدخل مباشرة في صلب الموضوع.. منذ بداية عهد ما بعد الثورة.. ومع مطلع كل يوم جديد.. وعلى كل صفحة من صفحات كل جريدة أطالعها.. وعلى شاشة كل قناة فضائية تونسية أتابعها.. وداخل كل مقهى أقصده.. وفي كل اجتماع أدعى إليه فأحضره.. ومن طرف كل شخص أصادفه في الشارع.. اسمع.. أو أشاهد.. أو أقرأ كلاما حول الجماعة.. الذين خدموا العهد الماضي.. وأفهم من خلال ما أسمع وما أقرأ وما أشاهد.. أن الناس.. كل الناس.. براء.. مما حصل في ذلك العهد.. وأن الواحد منهم.. قد كان يعيش خلاله «الحيط الحيط» وأنه قد كان يتبرم منه ومن تصرفات المسؤولين عليه.. وأنه قد كان يناضل من أجل التخلص منه.. ومن أجل القضاء عليه.. الغريب.. أنني ألمس هذا من طرف الجميع.. إذ يقوله المواطن العادي.. العيّاش.. والذي كنت قد شاهدته.. مرات.. ومرات وهو يحمل الكشكول الأحمر.. ويخرج للشارع للإسهام في استقبال هاك آش يقولولو.. والذي كنا نطلق عليه: بطل التحول.. وكنت قد سمعته مرات وهو يؤكد للناس ولاءه الدائم لعهد التحول المبارك.. ويقوله.. الوزير.. والذي كنت أتردد عليه بمكتبه.. فألحظ أنه ينفق كل وقته في سبيل.. إقناع الجماعة بأنه الرجل المناسب في المكان المناسب.. وبأنه الأقدر على حماية مصالحهم.. وعلى تلبية أوامرهم.. وعلى الاخلاص لهم.. فردا فردا.. ويقوله.. هاك الذي كان يعمل واليا.. والذي كنت قد سمعته يوما.. بأذني التي يأكلها الدود والتراب.. وهو يخاطب الإطارات العاملة معه بالقول: اللي ماهوش تجمعي.. مايلزمنيش.. ويقوله المعتمد.. والذي.. كنت أراه.. ويراه الناس معي وهو يحشد خلق الله زرافات ووحدانا.. ويجمعهم كما تجمع الحمير والأبقار.. داخل «الستافاتات» ويهدد الذين «يزرطون» منهم.. بالويل.. وكل هذا من أجل أن يملأ بهم ساحة الولاية.. حتى إذا ما حل بها القائد الأوحد.. وجد بها.. الآلاف.. من المواطنين وقد هبوا بكل تلقائية لاستقباله.. مرددين بصوت واحد: يحيا... ومناشدينه.. بكل عفوية.. وبكل حب الترشح للانتخابات المقبلة.. والتي سوف تنتظم في أواخر الخماسية الموالية للخماسية الحالية.. ويقوله.. البوليس.. والذي كنت ألحظه يتبعني.. في كل مكان.. وكنت أسمعه يقول لمن معه عني: «أنني حاشاكم خرا وماء سخون.. وأنني أنقد النظام في كتاباتي.. وأن نهاري جاي على قريب.. لأنه لا يسمح بتواجد الحشرات مثلي في هذا البلد.. والذي يعتبر نفسه واحدا من رعاته.. وخادما لسادته.. ويقوله.. المسهول.. الإداري.. والذي كانت تصلني كل أخباره.. بواسطة الذين يعملون تحت امرته.. والذين يؤكدون لي.. أن الرجل قد كان «تحوليا» بنسبة مائتين في المائة.. بل إنه قد كان أحولا في خصوص تعامله مع الناس.. إذ يكثر من الاغداق على بعضهم من.. «كاسة علياء» ويكثر من حرمان بعضهم حتى من أبسط حقوقهم العادية.. في إطار معاقبتهم على ألسنتهم الطويلة.. والتي يستعملونها أحيانا من أجل لفت نظر سيادته لبعض تجاوزاته.. فيقولون له مثلا أنه لا يعقل أن تتوقف أعمال الإدارة بسبب عدم وجود سيارة على ذمتها في حين ينعم حضرته بوضع أسطول من السيارات من أملاكها على ذمته وعلى ذمة أفراد عائلته أو يقولون له أنه ليس من حقه.. توزيع الصفقات الإدارية على كل من هب ودب.. من جماعة «الطرابلسية» أو يطالبونه بالكف عن الانتدابات العشوائية.. والتي أضرت بالمؤسسة.. وحملتها ما لا طاقة لها به.. أو يطلبون منه بكل لطف بالكف.. عن بعض تصرفاته المارقة في حقهم.. كألا يعمد إلى التمييز بين الموظفين والعاملين.. فيقرّب منه الموالين منهم.. وينفر البقية.. أو يرقّي الجميلات منهن.. بعد أن يدعوهن لشقته.. لقضاء الويكاند.. في حين.. يثقل كاهل.. البقيات.. بكثرة الأعمال.. ولا يقبل منهن الأعذار.. ويسبهن جهرا.. وسرا.. ويعيّرهن بتقاعسهن ويقوله،، هاك الموظف العادي والبسيط.. والذي كان في ذلك العهد.. يقضي كامل ساعات يومه.. وبعض ساعات نهاره.. بمقر الشعبة.. إذ يلعب في ساعات النهار «الديمينو.. والشطرنج» ويدورها في ساعات الليل.. «بلعة» ولا يغادر المقر إلا بعد أن يصبح عاجزا عن الوقوف على قدميه.. وقد يفعلها أيام الأحاد.. فيقضيها بدورها بنفس المكان.. بدعوى الاسهام في عمل اللجان.. وكل هذا من أجل أن ينال نصيبه.. من بعض التبرعات.. ومن بعض المساعدات الاجتماعية.. والتي قد يتمزى ببعضها على الأقارب والمعارف.. ويقولها.. رجل الأعمال.. الكبير.. والمتوسط.. وحتى الصغير.. إذ يقولها رجل الأعمال الكبير.. والذي قد ظل في هاك العهد.. ينعم بالخير العميم.. وظل يجمع القروض.. من كل البنوك.. وعلى كل «لون يا كريمة» وظل يتقرب لأهل القرار ولأهل الدار ويتعهدهم بالتحية في كل حين.. ولا يرفع عيونه في عيونهم.. ولا يرفض لهم طلبا.. وهو يفعل كل ذلك حتى يظل كبيرا.. وحتى ينجح في قضاء مآربه وحتى لا تتوقف آفارياته.. ويفعله حتى لا يتوقف عن تحويل الأموال إلى خارج الحدود.. وحتى لا يدفع معاليم الديوانة.. وحتى لا يدفع الأداءات.. وحتى لا يقف أمام المحاكم وحتى لا يجرؤ واحد من خلق الله في هذا البلد على التطاول عليه.. وحتى لا يوقف سيارته بوليس في الشارع.. وإذا فعلها في حقه.. ثم عرفه فإنه يسارع بتقديم التحية اللازمة له.. ويفعلها حتى لا يكون مثل بقية الناس.. مواطنا عاديا.. عليه ما عليهم وله ما لهم.. ويقولها رجل الأعمال المتوسط.. حتى يكبر مثل بقية الكبار.. ويقولها رجل الأعمال الصغير.. حتى يصير متوسطا.. ثم حتى يصبح كبيرا.. ويقولها ذلك الشاب.. الذي كان يقود سيارة الوالد أو الوالدة.. بدون رخصة ويتجول بها في الشوارع.. ويحاول بواسطتها دهس خلق الله.. وإذا صادفه من بينهم من ينهره عن ذلك.. أو من يدعوه للكف عن ذاك الصنيع.. فإنه «يتحلف فيه» ويهدده.. ببابي.. وبمامي.. ويؤكد له أنهما سوف «يقرصان أذانه» وسوف يمكنانه من التهمة اللازمة.. لانهما «واصلين» ولأن معارفهما كثيرة.. ولأن الوالدة خاصة.. تعرف «طاطا جليلة» أخت «طاطا ليلى» ولأن papa.. يسهر كل ليلة بمقهى طنطون.. مراد.. والتي فتحها حديثا.. وحولها إلي بيت للغناء.. وأصبح يجمع بداخلها مجموعات من رجال الأفعال.. ممن يقصدونها.. مصحوبين بالمادامات.. بعد أن يدعونهن.. لحطان الحطة.. سيس دوز.. حتى إذا ما نجحت إحداهن في جلب نظر طنطون مراد.. فسوف تعتبر أن باب العرش قد فتح على مصراعيه في وجهها وفي وجه المسيو متاعها.. والذي يتشرف بعد ذلك بحمل صفة.. زوج.. عشيقة الطنطون.. ويقولها.. هاك الثري التنتخة.. والذي يملك عشرات الشركات.. ويرسل مع مطلع كل شهر مئات الصكوك.. إلى جمعيات سيدة تونس الأولى.. طلبا لودها.. ويوسط الكبار حتى تقبل منه ذلك وتعتبره من المقربين.. وهو ذلك الشخص الذي أسهم هاك العام.. بما قدره مليارين من مليماتنا في إقامة بناية لفائدة صهرها.. وأسهم بنفس هذا المبلغ في حفل عرس ابنتها.. وأسهم بضعفه في تكاليف الحفل الذي أقامته بداخل القصر.. بمناسبة قدوم السلطان ولي العهد.. ويقوله هاك السياسي.. الذي ظل طيلة الثلاث والعشرين عاما الماضية.. يعمل بصفة خمّاس أو حتى حارس ببلاط الجماعة الذين أكلوا أرزاق الناس.. واستباحوا خير البلاد.. أكداسا وأكداس.. وزينوا بها خزائنهم وملأوها.. بالأموال والذهب والالماس.. ويقوله هاك المعارض.. الضارب في التحمس والحماس.. والذي كان يضرب في النهار عن الأكل.. ويضرب في الليل تحت الحزام.. الضرب الشديد القاسي.. ويهرع من الغد إلى القصر.. لنيل نصيبه من الكعكعة.. ولتحلية الأضراس.. وليؤكد للجماعة هناك.. بأنه قد نجح في أداء دوره التمثيلي.. الذي أعدوه له على المقاس.. وكلفوه بتمثيله على الناس.. حتى يوهمهم.. بقدرته على ممارسة النضال السياسي.. ماذا تريدونني أن أقول عن كل هؤلاء.. وأنا أعرف أنهم يمثلون أغلب الفئات في مجتمعنا.. هل أدعي أنهم قد قلبوا الفيستات وتنكروا للي فات من أجل مواصلة التلاعب بما هو آت.. هل اعترف لهم بأنهم قد فشلوا في استبلاهنا.. وأن الحربوشة هذه المرة لم نتجرّعها.. ذلك أننا نعرف كل شيء.. ونعرف الجميع.. ونعرف البسباسة.. ومن زرعها.. ونعرف أن اللي ما شطحت في عهد الطاغية هزت كمامها.. وحرّكت حزامها.. فلماذا ينكرون ذلك إذن.. موش عيب عليهم.. ربي يهدي على كل حال.