«هاك النهار» سمعت من يقول ضمن برنامج تلفزي مباشر وفي جوابه عن سؤال قد توجهت به إليه مقدمة ذلك البرنامج يتعلق بمسألة إقصاء بعض الفئات من عملية الترشح لعضوية المجلس التأسيسي.. من طرف مجلس حماية وتحقيق أهداف الثورة.. لقد سمعته يقول بالصوت العالي وبمنتهى الثقة في النفس ما معناه أنها الثورة.. وأن الثورة حرة في أن تفعل ما تريد.. وكيفما تريد.. ولا مردّ لقضائها. الحقيقة أنني قد تمنيت لو كنت يومها مكان تلك الزميلة.. لأن هذا لو كان قد حصل.. لكنت أجبت ضيفي المبجل.. بالتأكيد له بأن كلامه صحيح.. ولكنت قلت له.. بأنني أشاطره الرأي فيه.. ولكنت اعترفت مثله بأن الثورة من حقها أن تفعل ما تريد.. وأن تتخذ ما تراه صالحا من قرارات.. إلا أنني ومع كل ذلك.. فلقد كنت توجهت له بسؤال وحيد.. وخطير يقول نصّه: من كلفك بالحديث باسم الثورة.. ومن أعطاك الحق في التصرف بصفتك الناطق باسمها.. أضع نقطة وأعود إلى السطر.. لانطلق في تناول هذه المسألة.. بتوضيح أكثر.. ما أقصده.. يتعلق.. بهذه الحروب الكلامية.. وبهذه المحاضرات.. والمهاترات وبهذه التهم المتبادلة بين البعض والتي اكتسحت فضاءاتنا الإعلامية المرئية.. وتمكنت منها.. وتحولت إلى شغلها الشاغل وإلى مادتها الأساسية.. وإلى عنوان لتحررها من ضغوط الماضي.. ولتمكنها من النجاح في رسم سياسة إعلامية جديدة.. تتميز بالحرية.. وتؤسس لها.. أما السؤال الكبير الذي أصبح الناس يطرحونه من خلال متابعتهم لكل هذه الخطب السياسية فهو يقول: من أنتم وماذا تريدون منا؟.. وهل من واجبنا اعتباركم الأقدر على تمثيلنا وعلى رسم مستقبلنا.. وهل نحن مطالبون بوصفكم بأقطاب الطبقة الفاعلة في هذا البلد.. أطرح المسألة.. بطريقة أخرى.. هؤلاء الذين انهمكوا ومنذ فجر الثورة.. في تطارح القضايا السياسية.. عبر القنوات الفضائية.. وهؤلاء الذين أشبعونا كلاما وتحاليل في هذا الشأن.. وهؤلاء الذين لم يشبعوا من تكرار نفس الشعارات.. علينا.. ماذا يريدون منا؟.. وماذا ربحنا منهم؟.. وهل نجحوا فعلا في خدمتنا.. وفي تحقيق أهدافنا؟.. وأطرحها بطريقة مغايرة: «هاك» المواطن القابع في قمة أحد الجبال.. أو القاطن بأقاصي الجنوب أو الشمال.. والذي دغدغت أنفه الرائحة الزكية للثورة.. فقفز في الهواء فرحا وسرورا.. وأمر زوجته بأن تشاركه فرحته.. فلم تتخلف المسكينة واطلقت صوتها عاليا.. مزغردة.. ثم جلسا إلى بعضهما البعض يمنيان الأنفس بالتحرر من كل القيود.. وبتحقيق كل الأهداف.. وبدآ يرسمان معا.. صورة المستقبل المشرق.. وهاك الزوالي الكحتان.. والذي نجحت الثورة في فعل فعلتها به.. فاخرجته من «سينته» ودفعت به بدوره إلى تحديد طلباته ورغباته منها.. والتي لم تكن في الواقع مجحفة.. ولا غريبة ولا عجيبة إذ لم تتجاوز.. ما كان يمكنه أن يتحقق له.. منذ عهود.. ذلك أن صاحبنا وأمثاله.. لم يتوقوا.. ولن يتوقوا.. للكنفور.. ولا للعيش.. في عالم الهايات.. بل إن مطامحهم.. لم تتجاوز.. ضمان «الخبزة» وتوفير.. المكان الذي يأويهم.. بعيدا عن قر الشتاء وحر الصيف.. وهاك الشاب المتقد حماسا.. والذي عرض صدره للكرطوش.. ولم يتردد في الخروج إلى الشارع من أجل التعبير عما يخالجه.. خاصة وقد ظل وعلى مدى أعوام.. بطالا.. والذي لم يتمكن يوم نجاح الثورة من النوم وقضى كل ساعات ليله.. حالما.. بما سوف تحققه له.. والذي لا يتجاوز بدوره.. توفير مورد الرزق.. العادي والبسيط.. حتى يتمكن من تأكيد ذاته.. وحتى يساعد والده.. المسكين والقابع في التركينة منذ أعوام بسبب ما ألم به من أمراض.. وحتى ينجح على الأقل.. في تعويض البعض مما أنفقه عليه.. أيام الدراسة.. خاصة والرجل قد قضى كل عمره.. بدون عمل قار.. ومع ذلك.. فلقد ظل يحرص على «تقليع الفرنك» لكي لا يحرمه من حقه في مزاولة التعليم ولكي يوفر له المطلوب؟ كل هؤلاء.. وغيرهم.. ماذا تحقق لهم من خلال ما تشهده القنوات الفضائية وما تقدمه لهم من مهاترات سياسية؟.. هل نجح الذين يحتلون هذه القنوات في تمكين هؤلاء من تحقيق أحلامهم؟ هل انتشلوا بعضهم على الأقل من أوضاعهم الصعبة؟.. هل مكنوهم من حقهم في العيش الكريم؟.. هل قدموا لهم البرامج التي تساعدهم على ذلك؟.. وأطرح المسألة بطريقة أخيرة: إن الذين يتابعون هذه المهاترات.. ورغم أنهم قد غرموا بمتابعتها في البداية.. فلقد أصبحوا اليوم يسارعون.. بالهروب منها.. وباللجوء إلى متابعة القنوات الأجنبية.. عوضا عنها.. أما لماذا قد أصبحوا يفعلون هذا.. فلأنهم قد أدركوا.. أن ما يحصل اليوم عبر قنواتنا الفضائية يمثل حروبا خفية تدور رحاها بين مجموعات.. قد تدعي القدرة على التفرد بالشأن السياسي في هذه الربوع.. لكنها تتجاهل.. حقيقة ما يرغب فيه الناس وما يريدونه.. إن الذين يتكلمون اليوم.. لا يملكون الشرعية اللازمة لفعل ذلك.. لأنهم ليسوا منتخبين.. ولأنهم لا يمثلون في الحقيقة غير أنفسهم وربما أحزابهم.. أما السواد الأعظم من أبناء الشعب الكريم.. فلقد أصبح اليوم همهم متعلقا.. بواقعهم الصعب.. ولم تعد هذه الخطب السياسية الرنانة تثير بداخلهم الاهتمام.. أو تحرك آمالهم.. ماذا يعني هذا؟ الحقيقة أنني لا أدعو من خلاله إلى عدم الخوض في شأننا السياسي.. ولا أتصور أن الناس يفعلون ذلك.. من خلال رفضهم لبعض ما يحصل اليوم في ربوعنا.. بسبب كثرة المباريات السياسية المتلفزة.. أما أن يتحول هذا الشأن إلى أولوية مطلقة في حياتنا.. وإلى أداة لبعض الأطراف من أجل تحقيق أهدافها الخاصة.. على حساب غيرها.. وأما أن نهمل في ذلك اهتمامنا.. بكل ما يعنينا في المرحلة الحالية على الأقل.. لنتفرغ لتبادل التهم.. وللسعي من أجل إنجاح وافشال الخطط.. ولمحاولة تمرير المواقف.. الشخصية.. وأما أن نرضى.. بما يفرضه بعضهم علينا.. فلا نجرؤ على تسمية الأشياء بأسمائها.. وأما أن نتخلص من دكتاتوريات قديمة لنلقى أنفسنا مكبلين بخيوط دكتاتوريات جديدة.. أو حتى مهددين.. بظهورها علينا.. فهذه مسألة قد لا يمكننا القبول بها.. اللهم إلا إذا اعتبرنا أن الجماعة الذين يحتلون هذه الأيام شاشاتنا التلفزية.. ويتفرغون لملئ رؤوسنا.. بآرائهم.. وبمواقفهم.. الخاصة.. ينتمون لبقية المعتصمين والمعتصمات.. داخل بعض القطاعات.. في هذه الحالة.. فسوف يُسارع الواحد منا.. وبمجرد أن يشغل جهاز تلفزته.. فيصادفه على شاشته وجه من هذه الوجوه التي تحتله للكلام عن السياسة.. قلت سوف يسارع بالقول: متى يقع فك اعتصام هؤلاء؟.. ومتى يفهمون أننا لن نقدر على تحقيق مطالبهم التي يتقدمون بها إلينا من خلاله.. وذلك لسبب بسيط يتمثل في نظرنا.. في عدم ثقتنا فيهم جملة وتفصيلا.. خاصة وأننا لم نسهم في اختيارهم.. ولا في تكليفهم للاهتمام بشأننا..