كل ما يحصل اليوم في البلاد بعد ثمان سنوات من رحيل نظام بن علي لا يخدم المسار الديمقراطي وكل ما يعيشه الشعب اليوم في حياته اليومية بعد الثورة من صعوبات واكراهات ليس في صالح الانتقال الديمقراطي كما أن حصيلة ثمان سنوات بعد سقوط النظام القديم لا تخدم إلا المنظومة القديمة ورموزها المرشحة للانتخابات الرئاسية .. لقد كان من المفروض أن نعتز بأننا الشعب العربي الوحيد الذي يعرف تجربة ديمقراطية في محيط عربي يحكمه الاستبداد السياسي والإنفراد بالحكم والظلم الاجتماعي وأننا الشعب العربي الوحيد الذي اختار أن يعيش حرا وأن يبنى نظام حكم يزاوج فيه بين الحرية والأمن ويضمن التعايش بين الديمقراطية والحرية وبين فرض النظام وتطبيق القانون ويؤسس نظام حكم لا يفرط في حقوق الانسان ولا يضعف من هيبة الدولة ونظام حكم يحقق العدالة الاجتماعية المفقودة ويضمن العيش الكريم للمواطن من خلال الديمقراطية والحرية ومن دون حاجة الى حاكم مستبد ولا نظام حكم غاشم يسوس الناس بالعصا والإكراه. لكن كل هذا الحلم الذي راود كل أحرار تونس بعد ثورة 17 ديسمبر و 14 جانفي قد عرف خيبة أمل كبرى وفقدان الثقة في الوصول إلى المبتغي الذي ناضلت من اجله اجيال عديدة وضحى من اجله الكثير من الشرفاء الذين حلموا يوما بالعيش في ظل دولة عادلة وحكام صلحاء وحكومات خادمة لشعبها لنجد أنفسنا اليوم أمام واقع مرير ووضع سيء بعد أن تراجعت منظومة الخدمات في قطاع الصحة والنقل وتدهورت المرافق العامة وازداد ضعف الأداء الإداري وتوسعت دائرة الفساد وتحكم في كل مفاصل المجتمع وازدادت الرشوة نموا وانتشرت الجريمة بكل أنواعها وتمددت أكثر بسبب عوامل تراخت الدولة عن محاصرتها أهمها تعاطي مادة المخدرات التي تجد اليوم من يدافع عنها ويطالب بالسماح باستهلاكها وترويجها وتخفيف العقوبة عن مستهلكيها لنجد أنفسنا بعد ثورة على الظلم والاستبداد في مجتمع تحاصره الجريمة من كل جانب ويأسره الاجرام من كل مكان . تراجع الحلم الديمقراطي والعيش في ظل دولة حرة منظمة يسودها القانون والعدالة والإنصاف بعد تزايد فقدان الامل في المستقبل وفقدان الامل في الدولة وفي السياسيين والأحزاب السياسية وبعد أن تزايدت الحالة النفسية للكثير من الناس سوءا وتزايدت حالات الاكتئاب والقلق والخوف من القادم وأصبحنا اليوم نتحدث بكل وضوح وصراحة عن ازمة اخلاق عميقة تشق المجتمع وتراجع منظومة القيم وضعف الوازع الديني وتقلص منسوب احترام الناس للقانون . كل هذه المظاهر ينسبها الكثير من أفراد الشعب إلى النظام الديمقراطي الذي عوض منظومة الاستبداد وإلى مطلب الحرية الذي تحقق وإلى الحياة السياسية الجديدة القائمة على مبدأ التعددية والتشاركية في ممارسة الحكم وأصبحنا نسمع من يرجع كل مصائبنا اليوم إلى الخيار الديمقراطي ويعتبر أن الديمقراطية لا تصلح لنا وأن الديمقراطية لا تطعم الفقراء والمحرومين وأن تجربة الشعوب قد أوضحت أن هناك أنظمة ديكتاتورية قد حققت الرفاهية والتنمية والتقدم لشعوبها و أن هناك انظمة ديمقراطية كانت وبالا على شعوبها وقادت بلدانها إلى التخلف في إشارة إلى مزايا نظام بن علي في كونه حقق الأمن والاستقرار وقدر من العيش الكريم رغم حكمه الغاشم الظالم وفي محاولة لإجراء مقارنة بين ما تحقق في الزمن القديم وما انتجته الثورة ودعوة الناس إلى المطالبة بالعودة الى الماضي وإرجاع حكم الرجل الواحد . كل هذه المظاهر السلبية التي نراها يوميا في مجتمعنا والتي لا ترضينا ولا نقبل بها والتي ينسبها اعداء التطور والتقدم والإنسان الحر إلى ما حصل بعد سقوط النظام القديم وإلى الديمقراطية والحرية المكسب الذي نعتز به تحتاج اليوم إلى من يعالجها ويقوم بإصلاحها وإيجاد الحلول لها من اجل حماية المسار الديمقراطي الذي تحاول جهات عدة من المنظومة القديمة افشاله ونكسه لذلك فإن من المهام التي على رئيس الدولة المرتقب القيام بها ومن الاولويات التي يجب أن تحظى بالعناية الكاملة في برنامجه هي مسألة اعادة ثقة الناس في الديمقراطية باعتبارها النظام الامثل للشعوب الحرة وإعادة الاعتبار لمطلب الحرية وجعله لا يتعارض مع الامن والسلامة على رئيس الدولة المرتقب أن يحقق المصالحة بين مطلب الامن ومطلب الحرية ومطلب الديمقراطية وتطبيق القانون وفرض النظام وهذا لا يكون إلا إذا تمت معالجة كل المظاهر السلبية التي تتعب الناس في حياتهم وتجعلهم يكفرون بالثورة ويندمون على رحيل النظام القديم . لكل ذلك نقول رغم ان الصلاحيات التي خولها الدستور لرئيس الجمهورية مهمة و معتبرة على عكس ما يعتقد ويذهب البعض يمكن ان تشمل الكثير من المجالات الحساسة في حياة المواطن في علاقة بكل ما هو امن قومي كالغذاء والطاقة والفكر والثقافة والجانب الايكولوجي المتعلق بالبيئة والنظافة وهي مجالات يمكن ان يتدخل فيها رئيس الدولة بتقديم توجهات عامة ورسم استراتيجية لتسير عليها البلاد فإنه مع ذالك يمكن لرئيس الدولة بل من أهدافه أن يعيد الثقة في نفوس الشعب بخصوص خيار الثورة والحل الديمقراطي لبناء إنسان تونسي جديد بقيم وأخلاق مختلفة ودولة مختلفة عن دولة الاستبداد ومجتمع عادل من دون رواسب ومخلفات نظام بن علي الذي خلف لنا وضعا لا نزال الى اليوم نعاني من تداعياته السيئة .