هو سؤال يعاد طرحه باستمرار وسؤال لم يحسم بعد وحوله جدل كبير وسؤال يمثل أحد المواضيع التي تفرق الشعب التونسي وتفرق نخبه الفكرية وهو سؤال يكثر الحديث عنه مع اقتراب كل محطة انتخابية بعد أن شهدت الانتخابات البلدية الأخيرة وما حصل قبلها من انتخابات تشريعية ورئاسية من عزوف لافت عن المشاركة والإقبال على مكاتب الاقتراع نتيجة خيبة الأمل الكبرى التي منيت بها شرائح كثيرة من الشعب التونسي من قدرة الثورة على تحسين أحوالهم وتغيير واقعهم وهم الذين وثقوا في الثورة وما تحمله معها من رياح الحرية والديمقراطية ومعهما تحقيق العدالة الاجتماعية وتوفير العيش الكريم وفي مقدمته التقليص من حدة وطأة الفقر للكثير من الفئات الضعيفة وخلق مواطن شغل للطابور الكبير من الشباب العاطل عن العمل بصنفيه المنقطعين مبكرا عن الدراسة ومن أصحاب الشهائد العليا والذين فاق عددهم اليوم 600 ألف عاطل وتحقيق التنمية المرتقبة للجهات المنسية والمهمشة والتي كانت دولة الاستقلال قد عاقبتها بسبب مواقفها السياسية من النظام القائم ، لكل هذه القضايا الحارقة والتي لم يتحقق منها شيء ولغيرها من الملفات التي بقيت إلى اليوم تراوح مكانها فضلا عما حصل بعد الثورة من فوضى عارمة طالت جميع الميادين ومن تسيب أضعف الدولة وأجهزتها الأمر الذي أثر على إدارة الشأن العام وجعل البلاد تسير بطريقة غير محكمة نتج عنها ظهور الكثير من المظاهر السلبية التي اتعبت الناس وما رافق ذلك من غلاء للمعيشة وتراجع المقدرة الشرائية للمواطنين الأمر الذي جعل نسبة كبيرة من الشعب تدين الديمقراطية وتحمل الثورة مسؤولية تدهور الأوضاع وتدينها في كل ما حصل من تراجع في الوضع الاجتماعي والاقتصادي وفي كل ما يعيشه المواطن اليوم من إكراهات الحياة. لكل هذا الواقع الجديد الذي خلقته الثورة وما رافقها من واقع الحريات وصورة الممارسة الديمقراطية التي باتت تعرفها تونس منذ رحيل النظام السابق جعل الكثير من الناس يتساءل هل ما نعيشه اليوم من تراجعات على كل المستويات سببه الثورة ؟ وهل أزمتنا الاجتماعية والاقتصادية وحتى الأخلاقية كانت بفعل التخلي عن الحكم الاستبدادي الذي ضبط المجتمع لعقود من الزمن بعصا من حديد واستبداله بالديمقراطية الناعمة والحرية العالية ؟ وهل فعلا الديمقراطية اليوم هي سبب كل مشاكلنا وهي العائق الأساسي أمام تحقيق التنمية في الكثير من الجهات المحتاجة إلى تغيير حالها نحو الأفضل؟ إن الخطير في هذا الموضوع هو الخطاب الذي يردده أنصار المنظومة القديمة من الذين خسروا مواقعهم الاجتماعية وفقدوا حظوتهم السياسية والذين يعتبرون أن التخلص من الاستبداد والحكم الفردي والسلطة الجبرية هو الذي تسبب فيما تعيشه البلاد من تراجع اقتصادي وتخلف الحلول الاجتماعية وأن الديمقراطية التي جاءت بها الثورة هي سبب كل النكسة التي تعيشها البلاد والأخطر من ذلك أن هذا الخطاب ينتصر له بعض المثقفين ويدافعون عنه حيث تعتبر بعض النخبة أن الديمقراطية غير قادرة في الحالة التونسية أن تفرض على الشعب تضحيات تحتاجها البلاد لكي تنهض من جديد وعاجزة أن تجبر اتحاد الشغالين على مراعاة الاكراهات المالية التي تمر بها الدولة وتفرض عليه تأجيل مطالبه النقابية حتى تمكن الدولة من توفير المال اللازم لمجابهة نفقاتها العمومية وتوفير حاجيات الناس من المواد الغذائية الأساسية بدل الذهاب إلى الزيادة في الأجور واضطرارها إلى شراء السلم الاجتماعي بالزيادة في رواتب الموظفين . إن الخطير في هذا الخطاب الذي نسمعه اليوم عن خطر الديمقراطية هو اعتبار أن الشعب التونسي ليس أهلا للديمقراطية وأن البلاد لا يصلح معها النظام الديمقراطي وأن الناس اليوم غير مؤهلين ليحكمهم نظام الحريات وأن الذي يصلح مع هذا الشعب هو الضبط باستعمال القوة والعنف ويبرر أصحاب هذا الخطاب رأيهم بأن الجهل والأمية لا يصلح معهما حكم ديمقراطي و أن الحال لا يستقيم مع نظام سياسي يقوم على الحقوق والحريات طالما وأن 20 % من الشعب التونسي يعيش تحت وطأة الأمية ويعيش حياة الجهل ! !. الخطير في هذا التصور هو هذا الربط بين الديمقراطية وتخلف تحقيق التنمية وهو ربط مقصود ومتعمد لجعل الشعب يندم على أنه قام بثورة على الاستبداد و يتحسر على أيام الحكم الجبري في حين أن الحقيقة عكس ذلك خاصة و أن كل التجارب العالمية التي عرفت فيها الشعوب مرورا من نظام حكم استبدادي إلى منظومة حكم ديمقراطية قد عرفت فترات صعبة في مراحل انتقالها الديمقراطي وعرفت مقاومة عنيفة من طرف المنظومة القديمة التي تبقى دوما تقاوم من أجل استعادة الديكتاتورية والعودة إلى أيام الاستبداد ، لذلك علينا أن لا ننسى أن الديمقراطية مهما كانت عثراتها وسلبياتها تبقى دوما أفضل بما لا يقارن مع ما كان عليه الحال في زمن الديكتاتورية مهما كانت ايجابياتها. فالدولة التي حققت التنمية الاقتصادية بفعل الاستبداد والحكم التسلطي لم تصمد طويلا وسرعان ما لفظها الجسم الاجتماعي وسرعان ما انتفضت ضدها الشعوب فالتنمية التي تحققت بأداة الظلم والقهر وقمع الحريات لم تشفع لأصحابها وتضمن عدم خروج الناس عليهم ثائرين ضد أنظمة حكمهم لذلك كانت الديمقراطية دوما فضاء لتحقيق أفضل حكم ممكن ووسيلة للشعوب كي تراقب حكامهما من أجل تحقيق أداء سياسي أفضل ودفعهم إلى تحقيق سياسات وطنية مصلحة الفرد فيها مقدمة على كل مصلحة وهذا فعلا ما أبرزه استطلاع دولي للرأي أجراه مؤخرا " مركز بيو غلوبال " - وهو مركز بحث أمريكي مقره بواشنطن ويعمل في مجال أبحاث الشعوب والنشر وقد أجرى العديد من الأبحاث حول الأوضاع الاجتماعية والسياسية في الوطن العربي والعالم الاسلامي - عن نظرة التونسي للديمقراطية وكيف يقيم المواطن التونسي الحياة السياسية الجديدة بعد ثان سنوات من الثورة ؟ وهل هو راض عن التمشي الديمقراطي الذي اختارته الدولة ؟ حيث صرح 48 % من أفراد العينة المستجوبة أنه توجد اليوم في تونس فرص جديدة ليحسن الناس ظروف عيشهم وهي نسبة مهمة فيها مسحة تفاؤل معتبرة ونظرة للمستقبل إيجابية رغم كل ما يقال عن أداء السياسيين وعن فقدان جانب من الشعب ثقته فيمن يحكم اليوم وعدم ثقتهم كذلك في أن الانتخابات المقبلة بقطع النظر عمن سيفوز فيها لن تغير من الأمور شيئا وعدم رضاهم عن الديمقراطية بالطريقة والأسبلوب الذي تمارس في بلادنا حيث أعرب 70% من المستجوبين أنه كان بالإمكان أن يمارس السياسيون ومن ورائهم الشعب الديمقراطية بطريقة أفضل وأنهم غير راضين على الطريقة التي تمارس بها الديمقراطية اليوم بما يعني أن الشعب التونسي وفق هذا الاستطلاع الذي طرح الأسئلة بطريقة صحيحة غير موجهة لا يعادي الديمقراطية كفكرة راقية وكفعل سياسي ضروري باعتبار أن النظام الديمقراطي اليوم يعد أرقى شكل وصلت إليه البشرية لممارسة الحكم إلى حد اليوم. ما أردنا قوله هو أنه رغم كل العثرات وكل الخيبات وكل مشاعر الإحباط التي يشعر بها جانب كبير من الشعب التونسي من تداعيات الثورة السلبية وتخلف كل وعودها واستحقاقاتها فإن خيار الشعب إسقاط الاستبداد والمراهنة على الديمقراطية لواقع أفضل هو الخيار الذي كان من المفروض أن تسير عليه البلاد منذ سبعينات القرن الماضي لو قبل الزعيم بورقيبة بذلك ورضي ولكن تخلف تحقيقه جعلنا اليوم نعاني شيئا من الصعوبة في تركيز حكم عادل ونظام ديمقراطي وسلطة مدنية ومجتمع حر فقط ما نحتاجه هو مزيد من الصبر على الانتقال الديمقراطي ومزيد من اليقظة والمراقبة حتى لا ينحرف الحكم وحتى لا يعود الاستبداد من النافذة بعد أن أخرجه الشعب من الباب خاصة وأن الأصوات الناعقة التي تمجد النظام القديم وتنتصر له قد أعلنت قدومها .