أعترف أنني لم أكن بورڤيبيا.. ولم أكن من أنصاره.. ولا من أتباعه.. ولا من مريديه.. ولا من المعجبين به.. وكنت أتحاشى الكتابة عنه.. وكان أكثر شيء يستفزني في شخصيته هو النرجسية المبالغ فيها. والغرور الزائد.. والزهو.. والإعجاب المرضي بنفسه وعبقريته.. وإلحاحه الدائم على كفاحه وجهاده ونضاله وتقزيم رفقائه وإلغاء شخصيات من يدورون في فلكه.. وكنت عندما أستمع الى خطبه أخرج دائما بانطباع واحد أحد وهو أن تونس لم تلد إلا بورڤيبة.. وأن تونس ليس فيها إلا بورڤيبة.. وأن الشعب التونسي ما هو في نهاية الأمر إلا ذرات غبار أو تراب مثلما كان يقول هو ويكرّر.. وباختصار شديد لم أكن أحبه.. ولكنني لم أكن أكرهه.. وأذكر أنني حضرت في قصر قرطاج عرضا مسرحيا عنوانه «منصور الهوش» وأثناء العرض قام بورڤيبة من مكانه وهو يلوّح بيديه وعكازه في الهواء ويصيح.. وكان هائجا ومائجا.. لأن المسرحية لم تعجبه.. ورأى فيها تحريفا لتاريخ الكفاح الوطني.. فحاولت الماجدة وسيلة بورقيبة التي كانت تجلس إلى جانبه تهدئته.. ولكن ذلك لم ينفع.. وأشهد أن المسرحية التي قام بها بورڤيبة كانت أهمّ من المسرحية الأصلية: مسرحية «منصور الهوش».. وكان بورڤيبة رجل مسرح بالأساس ولو أكمل مسيرته المسرحية لأصبح من أكبر نجوم التمثيل في تونس.. وإلى أن خرج من الحكم.. لم تكن تربطني به غير علاقة مواطن لا يرى في رئيسه ما يراه هو في نفسه.. كنت أرى فيه مجرّد رئيس دولة لا يختلف عن رؤساء إفريقيا الذين يتحوّلون الى رؤساء مزمنين وأبديين ولا يتخلون على الحكم إلا إذا أجبرهم الموت على ذلك أو أجبرتهم الدبابات والأسلحة وسمعوا طرقا عنيفا على باب القصر.. ولكن شيئا فشيئا أخذت آرائي تتغيّر في هذا الزعيم.. ربما هو العمر.. ربما هي المقارنة.. ربما هي التطوّرات والأحداث.. وربما اجتمعت عدة أسباب موضوعية فغيّرت من موقفي من بورڤيبة.. وأظن أن الآلاف من التونسيين من جيلي ومن الجيل الذي جاء بعدنا كانوا مثلي تماما لم ينضموا الى البورڤيبيين إلا في وقت متأخر وبعد أن رأوا تونس بعده تتهاوى.. وتتراجع.. وتضعف وخصوصا فكريا وتربويا وحضاريا.. لقد كنت أقول لمن حولي قبل سنوات عندما كان التعتيم على بورڤيبة في أوجه: ان هذا التعتيم سيخدم بورقيبة وسترون كيف يرجع أقوى مما كان.. وهاهو اليوم يرجع أقوى مما كان ويحتلّ مكانة مرموقة ومحترمة في حياة وذاكرة ووجدان معظم التونسيين.. رحم الله بورڤيبة المجاهد الأكبر بقدر ما خدم تونس..