تابعت بانتباه مضامين الشهادات الحيّة حول تاريخ الاتحاد العام التونسي للشغل وجملة المنعرجات التي تعرّض لها وقاومها وانتصر عليها، وهي الشهادات الناطقة التي صاغها قلم الأستاذ المحامي الشهير العميد منصور الشفّي، على أعمدة صحيفة »الشعب« في حلقات متّصلة ومتتابعة... ولقد أبدع قلم الأستاذ الشفّي في إحياء الذاكرة النقابية والوطنية (الفردية والجماعية) بأسلوب سردي شبه سينمائي يحتوي على جانب من الروح الأدبية، فضلا بطبيعة الحال على مصداقيته العالية ونزاهته الخالصة وموضوعيّته المألوفة، التي يستمدّها الأستاذ العميد من توهّجه الوطني الراسخ وإستماتته في التعلّق بالحقيقة الكاملة وبالتاريخ فقط دون سواهما، الأمر الذي ساعده كثيرا على تجنّب عقلية التملّق والولاءات والإبتعاد قدر المستطاع عن نوايا النّبش في سجلاّت العداوات، أو التفكير في إعادة الروح لها، وقد توفّق في ذلك إلى حدّ بعيد... غايته الوحيدة إنارة الذّاكرة الوطنية! وفي إعتقادي كقارئ لتلك الشهادات فإنّ من أهمّْ محاورها، ذلك المحور المتعلّق بالصراعات العنيفة التي خاضتها بعض الشخصيات السياسية في وجه إستبداد بورڤيبة وطغيانه وجبروته، وسعيه الدائم لتقزيمهم وإحتقارهم والتآمر عليهم واضطهادهم على غرار الزعيم الوطني الشهيد صالح بن يوسف، والرائد النقابي والوطني، ومؤسس صحيفة الشعب، الراحل أحمد التليلي، وكذلك الوزير الأسبق أحمد بن صالح... وغيرهم... كما صرحّت تلك الشهادات المرجعية بصوت عالٍ، بمدى غطرسة بورقيبة الحزب الواحد ودولته وأجهزته ودوائره العلنية والسريّة، وإضطهاده الدائم لا فقط للرّجال والنّساء والشبان والصّبايا من العقول الرفيعة التي أنجبتها التربة التونسية الولاّدة من الوطنيّين حتّى النّخاع المعترضين بحزم على سياساته التبعيّة ومناهج حكمه الفردي الإستبدادي، بل حتّى للمقرّبين من بلاطه وأهل البيت ورموز سلطته وحكوماته المتعاقبة، الذي طعن البعض منهم في الظّهر وهم لا يُسبّحون إلاّ بإسمه! ❊ المحور المركزي للشّهادات: وفق قراءة يقظة ومتأنية لشهادات العميد يتبيّن أنّ المحور المركزي البارز ضمنها، يتعلّق باستقلالية الاتحاد العام التونسي للشغل وسيادة قياداته المركزية وكرامتها وثوابتها النقابيّة. فلئن نالت الرّموز المقرّبة من بورڤيبة قسطا هامّا من التحقير والتقزيم والعبث بكرامتهم، وحتّى إضطهادهم، ضمن صراع تكتّلات شخصية وعائلية وجهويّة مقيتة وتطاحن محموم على الخلافة والنفوذ والسلطة، لا علاقة لهما إطلاقا بالمصالح الوطنية العليا للشعب والبلاد، فإنّ الشّهادات المرجعية تفيد تماما بأنّ القسط الأوفر من صراع بورڤيبة مع كلّ من يخالفه الرأي والقسط الأكبر على الاطلاق من الأذى الشّديد الذي صدر منه، كان بلا شك (مباشرة بعد جريمة إغتيال الزّعيم الوطني الشّهيد صالح بن يوسف)... من نصيب الزعيم النقابي والوطني الراحل الحبيب عاشور، بصفته تحديدًا أمينا عاما للإتحاد العام التونسي للشغل، وزعيم المنظمة النقابية والوطنية الراسخة في تضاريس التّاريخ، التي إستبسلت طيلة عقود متتالية في الدفاع عن سيادتها وصيانة إستقلاليّتها من الإنتهاك والمصادرة والتعويم... فلقد سلّطت شهادات العميد (الوفيّ للتاريخ) جميع الأضواء السّاطعة على مؤامرات التدجين وانتهاك السيادة التي تعرّضت لها طويلا المنظمة النقابية، بصفتها قوّة اجتماعية وقلعة نضال للشّغالين بالفكر والسّاعد (وبوجه أخصّ في جانفي 78 المجيد). كما أنارت تلك الشّهادات المرجعيّة، الرأي العام النقابي والوطني والعالمي حول جبال المعاناة القاسية التي سلّطها نظام بورڤيبة مع سبق الاصرار والتعمّد على قيادات المنظمة النقابية بمختلف مستويات مسؤولياتهم، جهويّا ومركزيا، وبوجه أخصّ الرائدين النّقابيين الرّاحلين: الحبيب عاشور وعبد الرزاق غربال، والعشرات من المناضلين النقابيين من أبناء الاتحاد الأفذاذ، الأعضاء في الهيئة الإدارية الوطنية وفي المكتب التنفيذي الوطني الذين عاشوا مباشرة لهيب سنوات الجمر، وتجرّعوا علقم الاضطهاد والتنكيل والمعتقلات، ودفعوا أنفاسهم وأعصابهم ودماءهم وحياتهم، في سبيل الإستبسال في مقاومة الطغيان والاستبداد، غيرة على منظّمتهم النقابية وعلى مصالح الطبقة العاملة وحقوقها الشرعيّة. ... وقبل كلّ شيء وبعد كلّ شيء، دفاعًا حازما مستميتًا على إستقلاليّة الإتحاد العام التونسي لشغل، يقينًا منهم راسخا بأنّ الإستقلالية الفاعلة الحيوية للإتحاد تمثّل شرايين الدورة الدموية في حياة المنظمة النقابية، وعنوان سيادتها ورمزَ كرامتها ومصدر شرفها ويُنبوعَ ديمُومتها... ... فالشهادات المرجعية للأستاذ منصور الشفّي، قد ذكّرت الجميع: الطبقة العاملة، القيادة المركزيّة للإتحاد، القيادات الوسطى والقاعدية، القوى الوطنية ومنظّمات المجتمع المدني المستقلّة، وكلّ مكوّنات الرأي العام الوطني في بلادنا بأنّ الصّراع المركزي للإتحاد العام التونسي للشغل (منذ الشّهيد المؤسّس فرحات حشاد وإلى اليوم) في وجه الإستغلال والطغيان والإستبداد، لم يكن سوى صراعًا من أجل استقلالية المنظمة النقابية بدرجة أولى، وليس تلك النّزاعات الموسميّة حول الأجور والأسعار وظروف العمل والمناولة المُهينة وتزوير بطاقات الخلاص وإهانة العمّال والطرد التعسّفي، رغم الأهميّة الأساسية لتلك القضايا والملفات النقابيّة الحقيقية، التي تؤرّق الشّغالين!! ❊ الإتّعاظ بالتّاريخ لقد ذكّرت شهادات العميد الشفّي، جميع النقابيين والقادة والباحثين والمؤرّخين، وفق تتابع الأحداث والوقائع والملابسات والمواقف، بأنّه كلّما كانت المنظمة النقابية حازمة وغيورة على صيانة إستقلاليّتها والدفاع عن سيادتها وحريّة قرارها، كلّما جنت من خلال ذلك التوجّه قدرًا هائلا من التّقدير والإحترام والمصداقية من جانب الطبقة العاملة وجماهير الشغالين، ومن جانب الأصدقاء والمناوئين على حدّ السّواء!! كما ذكّرت تلك الشّهادات الأصيلة جميع الأطراف الإجتماعية والاقتصادية والسياسية بأنّ الاستقلاليّة قد مثّلت وتمثّل على الدوام حجر الزاوية في كيان الإتحاد وتاريخه الحافل، وفي نحت شخصيّته الذّاتية وحماية سيادته من أيّ تعويم أو إنتهاك مهما كان مصدرهما، حتّى ولو كان من داخل العائلة النقابية نفسها. ... وفي المقابل، كلّما عرّض الإتحاد مرتكزات سيادته ودعائم إستقلاليّته وأسس حرية قراره لأيّة محاولة إنتهاك أو إنتقاص ولم يقاومها بالحزم النقابي الجماعي، كلّما أصبح (لا قدّر اللّه) لقمة سائغة وبيدق شطرنج بين أيدي بعض أرباب المال والثروة، أو بين أيادي هذا المسؤول أو ذاك، أو هذا الحزب أو ذاك، سواء في السلطة أو خارجها... فالأجيال النقابية المتعاقبة (قواعد ومسؤولين وقيادات وسطى ومركزية) مطالبة بالحزم أكثر من أيّ عهد مضى وباليقظة الفاعلة المتواصلة، وبالخصوص بالإتّعاظ الجدلي الصّارم بملابسات المعاناة القاتمة المريرة التي تجرّع علقمها الزعيم النقابي الوطني الفقيد الحبيب عاشور، بتوصيات وتعليمات علنيّة من بورڤيبة وتحت إشرافه المباشر، إلى المدى الذي عبّر فيه الفقيد الجليل عن مرارة محنته مع بورڤيبة، حين قال بالحرف الواحد: »أنا لست سجين القضاء، بل سجين الرئيس الشخصي«. وهي المحنة الأليمة التي شكّلت ثمن فاتورة النخوة والإعتزاز بالدفاع عن إستقلالية الإتحاد، وحماية سيادته وحريّة قراره وتحصين كيانه الذاتي.. فبالرّغم من وقوف الفقيد الحبيب عاشور وقفة حازمة في مؤتمر الحزب بصفاقس حسمت الصّراع السياسي لفائدة بورڤيبة وأتباعه على حساب الجناح الوطني بقيادة الزعيم الشهيد صالح بن يوسف، ورغم إنخراطه في مرحلة مَا من صراعه مع بورڤيبة، في نسيج السلطة تمامًا (حيث أصبح عضوًا في الديوان السياسي للحزب الحاكم!!)، ورغم مؤازرته لبورڤيبة في مسلسل إطاحته بأحمد بن صالح (الوزير القويّ) والعبث بمصيره كيفما شاء، فإنّ حزب بورڤيبة وقادة أركانه وميليشياته، قد حافظوا دوما على نفس نظرتهم للمنظمة النقابية وعلى نفس مواقفهم منها، ولو بتَلاَوينَ مصطنعة متنوّعة، وخادعة في أغلب الأحيان: فإمّا إحتواء بعض قيادات المنظمة وتعويم حزمهم النقابي الأصيل عبر الإغراء أو الترويض أو الترويع عن طريق خطب ودّها في هدوء ودون ضجيج إعلامي! ... وإمّا تقليم أظافرها وتلجيم صوتها والتشهير بها والتحريض عليها (مثلما حصل للأستاذ النقابي الطيب البكوش في عهد حكومة نويرة)، وإلاّ عند الإقتضاء، تصعيد الصّراع مع المنظمة النقابية إلى أعلى درجات التصعيد، وإكتساحها بالحديد والنّار، والعدوان الموصوف عليها في عقر دارها، ونسف هياكلها ومقرّاتها، والتنكيل بعمّالها وكوادرها ومناضليها وقادتها، والزجّ بهم في غياهب المعتقلات (مثلما حصل إبّان حكومة مزالي التي تميّزت بممارسة إرهاب الدولة في أشنع مظاهره)، وكل تلك السياسات الإستبدادية خطّط لها بورڤيبة بدرجة أولى، وتمّ تنفيذها بأوامره وتحت إشرافه وتوجيهات مستشاري القصر!! ... فالعبرة الذهبية من شهادات العميد منصور الشفّي تتمحور بصورة أساسية في أنّ الأغلبية النقابية المطلقة من أبناء وبنات الإتحاد (عمّال وكوادر وقيادات) يحافظون بكلّ حزم مع المؤازرة النشيطة من جانب الإعلام النقابي على غيرتهم الشديدة على إستقلالية المنظمة، وعلى درجة عالية من اليقظة المتوثّبة، صيانة لتلك الإستقلاليّة السياديّة وتحصينا لها من جميع مناورات خلط الأوراق مهما كان مصدرها، ومن جميع أنواع المنزلقات المهينة لكرامة الإتحاد وشرف رواده وأرواح شهدائه الخالدين.