انتهت كما هو معلوم يوم السبت 14 ديسمبر الجاري المدة الدستورية الأولى التي منحها الدستور إلى السيد الحبيب الجملي الذي كلفته حركة النهضة بوصفها الحزب الفائز في الانتخابات التشريعية الأخيرة بتشكيل الحكومة من دون أن تفضي إلى نتيجة واضحة ومن دون أن يتوصل إلى تشكيل حكومة بعد الصعوبات التي اعترضته في ايجاد أرضية اتفاق وتفاهم مع الأحزاب المقترحة للانضمام إلى هذا التشكيل الحكومي الجديد ونقصد هنا بالخصوص حزبي التيار الديمقراطي وحركة الشعب اللذين تمسكا بشروطهما ولم يقبلا التنازل عن أي منها والمتمثلة أساسا في الحصول على حقيبة وزارة الداخلية والعدل والإصلاح الاداري بالنسبة للتيار والاتفاق على برنامج اجتماعي واضح ومدقق وبآجال وموارد مالية واضحة مع محاربة فعلية وحقيقية للفساد بالنسبة لحركة الشعب وهي الشروط التي يقول عنها الحزبان أنها غير متوفرة فيما بدا لهما خلال المشاورات والاتصالات التي حصلت مع الوزير المكلف بتشكيل الحكومة الحبيب الجملي. فهل فعلا أن الحبيب الجملي قد فشل في تشكيل فريق حكومي يستجيب لتطلعات المرحلة ؟ وهل فعلا يتحمل هذا الرجل لوحده عدم التوفيق في الآجال الدستورية على تشكيل حكومة ينتظرها الجميع حتى نمر إلى مرحلة سياسية أكثر وضوحا تجعلنا ننطلق نحو العمل الفعلي وتجعل رئيس الدولة هو الآخر يتحرك في انسجام مع الحكومة وهو الذي في حاجة اليوم إلى تعيين وزيري الخارجية والدفاع التابعين له ؟ في تقديرنا ومن خلال متابعتنا للخطوات التي قطعها السيد الجملي في المهمة التي كلف بها وكل العمل الذي قام به من استماع واتصال بأكبر عدد ممكن من الشخصيات الوطنية حتى تتضح له الصورة وحتى يتعرف على أفكار وتصورات من يرغب في ضمهم إلى فريقه الحكومي أن الرجل في ورطة كبيرة وأنه لا يتحمل بمفرده مسؤولية فشل المرحلة الاولى من المشاورات وإنما الجميع مشترك في هذه النتيجة . في اعتقادنا أنه كان من المفروض أن تشكل الحكومة من الأحزاب التي رفعت شعار الثورة والتي أعادت من جديد قاعدة الفرز السياسي على أساس من هو مع النظام القديم ونظامه الاستبدادي ومن هو مع القطع مع منظومة الفساد وينتمي إلى منظومة الثورة ووفقا لهذا التمشي فإن السيناريو الأمثل الذي يضمن للجملي حزاما برلمانيا قويا ودعما رئاسيا وشعبيا باعتبار أن الرئيس قيس سعيد ينتمي هو بدوره إلى منظومة الثورة أن تشكل حكومة من حركة النهضة وائتلاف الكرامة والتيار الديمقراطي وحركة الشعب وهذه التوليفة تضمن للحكومة قاعدة برلمانية مريحة للعمل والتشريع. ولكن ما الذي حال دون أن تتفق القوى التي تدعي الثورية والتي تدعي مواصلة مسار الثورة حتى تحقيق أهدافها ؟ وما هو العائق الذي حال دون التقائها في جبهة حكومية واحدة طالما أن المشترك هو البرنامج الثوري البرنامج الاجتماعي واستعادة المطالب الاجتماعية التي قامت عليها الثورة ؟ والحال أن هذه الاحزاب هي اليوم الأقرب إلى التحالف والأقدر على تشكيل حكومة قادرة على تحقيق الإضافة للشعب ؟ في رأينا ما عسّر على الجملي تشكيل الحكومة و ما صعّب عليه إيجاد أرضية يمكن أن تتفق عليها الأحزاب المذكورة هو الأجندة الخفية لكل حزب سياسي والأجندة غير المعلنة لكل حزب واللعب على الحبال الذي مارسته بعض الأحزاب مع رئيس الحكومة المكلف قصد التملص من الانضمام إلى حكومته فما هو معلوم أن التيار الديمقراطي وحركة الشعب يعلمان يقينا أن المرحلة القادمة هي مرحلة صعبة وأن الرهانات المنتظرة كثيرة وأن انتظارات الناس أكبر مما نتوقع وهما على يقين أن من يقترب الآن من الحكم سوف يحترق ويتآكل وأن اكراهات واحراجات الحكم غير مقدور عليها في الظرف الحالي مع قلة موارد ميزانية الدولة وضعف الميزانية التي لا تسمح لأي حزب مهما كانت قوته أن يوفي بما وعد به خاصة إذا علمنا أن الدولة عليها أن تبحث على موارد مالية إضافية لتغطية الثقب الموجود في ميزانية 2020 وقدره 12 مليار دينار وعليها أن تبحث عن موارد مالية جديدة لتحقيق الوعود الانتخابية في علاقة بالاستحقاقات الاجتماعية من خارج الجباية ودون العودة إلى الموظفين الذين ارهقوا بالأداءات من أجل ذلك قام التيار بالترفيع في سقف شروطه التي اعتبرت تعجيزية وغير مقبولة من حزب يريد أن يساهم في انجاح المرحلة المقبلة خاصة وهو يعلم يقينا أن من حق الحزب الفائز أن تكون له وزارات السيادة وحتى فكرة الحبيب الجملي تحييد هذه الوزارات عن الاحزاب وإعطائها إلى مستقلين حتى يبتعد بها عن التجاذبات السياسية لم يقبل بها التيار. ونفس الشيء يقال عن حركة الشعب التي طالبت ببرنامج عمل حكومي يكون لمضمونه مسحة اجتماعية واضحة وينتصر للطبقات المهمشة ويكون مدققا بتواريخ وآجال محددة وميزانية واضحة غير أنها تعلم يقينا أن ارتباط الدولة مع صندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية المانحة يصعب نوعا ما الاستجابة إلى هذا الشرط وأن فك الارتباط في هذه المرحلة مع من يقرض الحكومة ويضمن لها تسديد نفقاتها العمومية أمر غير مقبول ولا يمكن الاستجابة إليه وأن المطلوب في هذه الظرفية التي تمر بها البلاد هو الانضمام إلى الحكومة للعمل من أجل إدارة المرحلة بأقل اضرار ممكنة ومن أجل استعادة الدولة لقرارها السيادي والسياسي بوضع خطة للتخلص من الديون الخارجية وإنهاء حالة الارتهان إلى الخارج ووضع استراتيجية لتحسين حال المالية العمومية وإنقاذ كل المؤسسات العمومية ووضع برنامج اجتماعي يحقق العدالة بين الجميع. لكن حركة الشعب بشروطها الصعبة وغير القابلة للنقاش قد صعبت على الجملى مشاوراته معها لتجعل لنفسها نافذة تخرج منها من ورطة الحكم التي تعلم يقينا أن مشاركتها فيها سوف يجعلها تحترق لأن كل المؤشرات تقول بأننا قادمون على مرحلة صعبة . ما أردنا قوله هو أن الصعوبة التي وجدها الحبيب الجملي في تشكيل الحكومة في مدتها الدستورية الأولى والتي وصفت بالفشل لا يتحملها هذا الأخير لوحده وإنما تتحمل قسطا كبيرا منها الاحزاب المدعوة للانضمام إليها لأنها دخلت المفاوضات من منطلق لعبة الحبال الخفية والأجندات الحزبية غير المعلنة ومن منطق تقدير الربح الخسارة وتجنب الاحتراق والتآكل .