تقدم تركيا على مخاطرة قد تؤدي إلى تعميق تورطها في الصراع في ليبيا،خاصة بعد قرار إرسال قوات لدعم حكومة الوفاق في طرابلس،الأمر الذي سيمثل مرحلة جديدة من تدويل القتال هناك. وأمدت أنقرة بالفعل حكومة الوفاق،المعترف بها دوليا في العاصمة الليبية طرابلس، بمركبات مدرعة كما تشغل طائرات بدون طيار لصالح الحكومة الليبية. ويبدو أن دور القوات التركية في ليبيا سوف يركز على مهام "التدريب والاستشارات"، لكنه وصف فضفاض لهذا الدور.فإذا وجدت الحكومة الليبية نفسها في مأزق لا خلاص منه، فحتما ستجد تركيا نفسها مجبرة على الانخراط المباشر في القتال. لذلك يمكننا القول إن دور القوات التي نشرتها تركيا في ليبيا لم تتحدد ملامحه بعد.! يشار إلى أنّ حدة الصراع ازدادت في ليبيا في أفريل 2019 بعد بدء خليفة حفتر،الخصم الرئيسي لحكومة الوفاق،شن هجمات على العاصمة طرابلس فيما بدا أنه حرب بالوكالة وسط وجود عدد من الأطراف الخارجية التي تنتقي من بين أطراف الصراع في ليبيا من تدعمه لتحقيق طموحاتها الإقليمية. هل يلعب -أردوغان-دور "القرصان البحري الجديد في البحر المتوسط"..؟ مازال اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين ليبيا وتركيا،الذي وقع في 27 نوفمبر2019 يثير المزيد من الجدل وردود الفعل خاصة على المستوى الإقليمي،في وقت يرى فيه البعض،أن ما أثاره الاتفاق من جدل بين أطراف اقليمية مختلفة داعمة لطرفي النزاع في ليبيا، يبرز من جديد أن البلاد ماتزال موضع صراع إقليمي عبر وكلاء. وتبدو الأطراف الإقليمية المشتبكة في هذا الصراع،على طرفي نقيض تماما،إذ أن كلا من مصر واليونان وفرنسا،رفضت جميعها الإتفاق الأخير،وكذلك رفضته دولة الإمارات العربية المتحدة،ووصفته بالتغول التركي في المنطقة،وأنه يمثل انتهاكا للقانون البحري،في حين تراه تركيا يعيد التوازن للمنطقة،وتعتبره يحقق أولوية من أولويات أمنها القومي،إذ ترى أنه نجح في كسر الطوق البحري الذي سعى لعزلها،والمكون من إسرائيل ومصر واليونان والشطر اليوناني من قبرص. وكانت عدة وسائل إعلامية في مصر والإمارات،قد هاجمت الاتفاق بين تركيا وحكومة فايز السراج الليبية،حيث اتهم الكاتب المصري عماد الدين أديب في مقال له،الرئيس التركي أردوغان بالقيام ب"دور القرصان البحري الجديد في البحر المتوسط"،في حين قال كاتب آخر هو عمرو عبد السميع (باحث سياسى مصري،يشغل منصب فى مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية ) في "الأهرام" المصرية إن "وجود أردوغان في هذه المنطقة خطير،ولا يمكن أن يستمر حظر تزويد الجيش الوطني الليبي بالسلاح،في الوقت الذي تتواجد فيه تركيا،ويسمح لها بدخول المياه الإقليمية والأراضي الليبية،وتؤسس في بلطجة لا نظير لها أمراً واقعاً يتحدى العالم". وفي الإمارات التي تمثل أيضا حليفا للجنرال الليبي خليفة حفتر،تصاعدت أصوات مماثلة،إذ كتبت أمل عبد الله الهدابي(مدير إدارة النشر العلمي بمركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية) في "البيان" الإماراتية: "إن أنقرة تحاول من خلال هذا الاتفاق،ولاسيما شقه البحري تحقيق أطماعها في غاز شرق المتوسط، والذي تخوض من أجله صراعاً مريرا مع دول مثل قبرص واليونان ومصر". تعد منطقة شرق المتوسط مطمعا كبيرا لدول المنطقة برمتها لما تحتويه من مخزون هائل من الغاز الطبيعي يقدر بأكثر من 100 تريليون متر مكعب.ومن هنا،فأنقرة تريد إذا أن يكون لها نصيب وفير من تلك الثروات. وجاءت اتفاقية "شرق المتوسط" المعروفة باسم "إيستميد" بين اليونان وقبرص وإسرائيل التي تهدف إلى تأمين إمدادات الطاقة في أوروبا عبر خط يبلغ طوله 2000 كيلومتر،لتعرقل محاولات تركيا توسيع سيطرتها على شرق البحر المتوسط.وعلى هذا الأساس-في تقديري-يأتي التحالف التركي الليبي ردا على تلك الاتفاقية. الدور التركي في ليبيا يأتي كذلك في إطار مساعي الرئيس رجب طيب أردوغان في -إحياء العثمانية الجديدة وبسط نفوذ واسع لأبناء أتاتورك على منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا-. وإذن؟ بحكم الجوار إذا،بين ليبيا ودول المغرب من المحتمل أن تتأثر تلك الدول في حال ما اتسعت المعارك وأدت إلى فوضى،وهو ما قد يؤدي إلى انتشار عناصر إرهابية،وكذلك الخوف من موجة مهاجرين من ليبيا باتجاه الدول المغاربية.علما أنه حتى الآن بقيت الدول المغاربية بعيدة عن صراع القوى والنفوذ بين تركيا من جهة ومصر والإمارات والسعودية من جهة أخرى. والسؤال الذي ينبت على حواشي الواقع: هل تفتح ليبيا جبهة أخرى للصراع..؟ ليس من المتوقع أن تتحول دول المغرب العربي لساحة جديدة لصراع النفوذ،وذلك لأن تلك الدول تلتزم الحياد في مواقفها ومن الصعب أن تنجر نحو معركة استقطاب. خلفيات التدخل التركي في ليبيا: يشكل البعدين الاقتصادي والإيديولوجي دافعين أساسيين لحكومة العدالة والتنمية،برئاسة أردوغان،في معظم تدخلاتها في شؤون الدول العربية، وقد يفهم البعض دوافع تركيا للتدخل في سوريا أو العراق،لجهة الحدود المشتركية التي تجمعها مع البلدين،ولكن ليبيا التي تبعد آلاف الكيلومترات عن الأراضي التركية،تؤكد أطماع تركيا أردوغان في المنطقة،بحسب مراقبين. أما الشق الاقتصادي بحسب هؤلاء،فيتمثل برغبة أنقرة ترسيخ وجودها في البحر المتوسط،وإعطائها طابعاً شرعياً من خلال الاتفاق الأخير،مع حكومة سراج في ليبيا، والذي يرسم الحدود البحرية بين الطرفين،وذلك بعد الرفض الأوروبي لعمليات التنقيب التي تجريها سفن تركية في البحر المتوسط، على السواحل القبرصية (الجرف القاري). فيما وصفته اليونان بأنه أمر مناف للعقل من الناحية الجغرافية لأنه يتجاهل وجود جزيرة كريت اليونانية بين الساحلين التركي والليبي.وبالإضافة إلى البحر المتوسط تطمح تركيا بمصادر الطاقة في الداخل الليبي،وكذلك مشاريع إعادة الإعمار واستثمارات مستقبلية في البلاد،بحسب خبراء وفيما يتعلق بالشق الإيديولوجي فإن المحرك الرئيسي للتدخلات التركية في الدول العربية،هي الإخوان المسلمين وارتباطاتها المتينة مع حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا،ويرى محللون أن الهدف من تدخل تركيا في الشأن السوري وقبلها في مصر،هو نفسه الذي يحركها للتدخل في ليبيا،وهو دعم مشروع الإخوان في حكم البلدان العربية والسيطرة على مقدراتها،وكذلك محاولة الاقتراب من حدود مصر التي أفشلت مشروع الإخوان المسلمين،بحسب هؤلاء. أخيرا، يمكن وصف ما يحدث في ليبيا بأنه صورة مصغرة من الكارثة الكبرى التي تشهدها سوريا،لكن من الواضح تماما أن هناك المزيد من فصول مسرحية أزمة ليبيا والدور الأكبر لتركيا فيها ستتكشف خلال الأشهر القليلة المقبلة.