لعلع الرصاص وخيمت سحب رمادية على سماء تونس وسقط شهداء مضرجين بدماء الحرية.. كان ذلك يوم 14 جانفي من سنة 2011،وقبلها في السابع عشر من شهر ديسمبر 2010 ذكرى إنطلاق الشرارة الأولى للثورة التونسية المجيدة التي أجّج لهيبها محمد البوعزيزي الذي تحوّل جسده بفعل اللهيب إلى كتلة لحم متفحّمة.. وغدا يحتفي التونسيون بالذكرى التاسعة للثورة التي أطاحت بنظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي في ظل أجواء اجتماعية وسياسية تتسم بالاحتقان ووضع اقتصادي يصفه المراقبون بأنه جد صعب. قلت هذا الإحتفاء،بالذكرى التاسعة للثورة يأتي في ظل أجواء اجتماعية مشحونة،لا سيما مع تواتر الاحتجاجات في الفترة الأخيرة للمطالبة بالتنمية والتشغيل في عدة مدن عبر البلاد. المشهد السياسي لا يقل احتقانا عن المشهد الاجتماعي خاصة بعد سقوط حكومة الحبيب الجملي برلمانيا.. تزامن الأزمات السياسية مع تفاقم الصعوبات الاقتصادية في البلاد،رغم تحسن طفيف لمؤشر النمو،يزيد الوضع تعقيدا فالرهان الاقتصادي هو من أصعب الاختبارات التي تواجه الدولة التونسية.العجز التجاري تعمّق وقيمة الدينار تدنت ونسبة التضخم ارتفعت،وهو ما تسبب في ارتفاع الأسعار ونقص العديد من المواد الأساسية في الأسواق. ورغم مساحة الحرية التي توسعت ممارسة وتشريعيا والتقدم الذي سجل في المسار السياسي مع تنظيم الانتخابات البلدية الحرة الأولى منذ ثورة 2011 في ماي 2018 لترسيخ المسار الديمقراطي في البلد الوحيد الناجي من تداعيات ما يسمى ب" الربيع العربي"، فإن الصعوبات والمطبات الاقتصادية التي تعرفها تونس منذ 2011 وتداعياتها الاجتماعية ما زالت تلقي بظلالها القاتمة على تقييمات مسار الثورة. والحال أيضا بالنسبة لسكان المناطق المهمشة لا سيما الداخلية منها حيث يشعرون بأنهم مستبعدون وتم التخلي عنهم وأن السلطة الاقتصادية بين أيدي أقلية. في هذا السياق،تقول الخبيرة في علم الاجتماع ألفة لملوم التي ترأس منظمة غير حكومية تهتم بالمناطق المهمشة في البلاد " قامت الثورة على ثلاثة شعارات (عمل وكرامة وحرية) لكن العمل والكرامة لم يتحققا". وأشارت إلى بعض التقدم مع تخصيص حصة إجبارية للشباب دون 36 عاما بين مرشحي الانتخابات البلدية "ما سمح بدخول عدد كبير منهم الى المجالس البلدية" في 2018. لكن لملوم تضيف "لا شيء تم لتحسين مستوى العيش" اليومي للشباب الذين تعرض وضعهم إلى "تدهور حقيقي". في الضواحي الفقيرة ومدن الداخل تفوق نسبة البطالة بضعفين أو ثلاثة أضعاف النسبة الوطنية للبطالة البالغة 15.5 بالمئة،وتطال خصوصا خريجي الجامعات. وكان فتيل "ثورة الشباب" قد اندلع بعد أن أحرق-كما أسلفت-البوعزيزي نفسه في سيدي بوزيد، وأعطاها مدونون شبان دفعا قويا.لكن فئة واسعة من شباب تونس تواجه اليوم تردي الظروف المعيشية وسوء المعاملة مع تفشي الفساد هنا..وهناك ما يدفع العديد إلى الهجرة عندما تضيق الآفاق.وتنسدّ نوافذ اشراقات الحياة.. والسؤال الذي ينبت على حواشي الواقع مع حلول الذكرى التاسعة للثورة: ما الذي تحقق ؟ وما الذي لم يتحقق لصالح المواطن التونسي خلال هذه السنوات ؟ وينقسم التونسيون ونخبهم بهذا الشأن، فمنهم من يرى أن وضع تونس الآن أفضل من أيام حكم بن علي،خاصة على مستوى الحريات،ومنهم من يرى أن البلاد تئن خلال السنوات التسع التي تلت الثورة، تحت واقع اقتصادي متردي فشلت في علاجه عدة حكومات متتالية. ورغم الاختلاف بين تيارين،حول ما إذا كانت الأحوال في تونس أفضل بعد الثورة،إلا ان هناك اجماعا بين النخب التونسية على كافة انتماءاتها،على أن التخلص من حكم بن على، أحدث حالة غير مسبوقة من الانفراج في مجال الحريات،وأن المواطن التونسي يعيش منذ الثورة حالة من الحرية السياسية، لم يعرفها من قبل،ولا يعرفها أي مواطن عربي في الجوار الإقليمي،كما يتفق الجميع أيضا على أن هناك فشلا واضحا،على الجانب المقابل من قبل حكومات متتالية منذ الثورة،في إدارة الملف الاقتصادي للبلاد وهو ما أدى إلى الوضع الراهن،-كما أشرنا-من بطالة مرتفعة وانخفاض في القوة الشرائية وزيادة في التضخم. ويرى المؤيدون للثورة التونسية وكل ما تلاها أن صمود الحالة التونسية في حد ذاته،في وقت فشلت فيه كل تجارب "الربيع العربي"، يعد انتصارا ،وهم يعتبرون أن قوى الثورة المضادة تكاتفت بكل قوة من أجل إفشال المرحلة الانتقالية التي تلت الثورة في تونس وأن ما تمر به تونس هو شيء طبيعي،في أعقاب كل الثورات، لكن المستقبل سيكون أفضل بكثير. وأنا أقول-وأرجو أن أكون على خطإ جسيم-فشل الحكومات المتعاقبة التي تولت مقاليد الحكم منذ الثورة،في إدارة الملف الاقتصادي،مرده التغافل عن-استحقاقات الثورة وحاجيات الإنسان-هذا المواطن التونسي الذي لا يعيش بحرية التعبير فقط، إنما هو في حاجة أولا إلى إشباع حاجاته الأساسية،والحاصل حاليا في تونس يعيد الأمور إلى المربع الأول،حيث يؤجج الوضع المعيشي المتردي وانخفاض القدرة الشرائية من جديد الحركات الاحتجاجية،ويضع تونس على مشارف مصاعب ومتاعب كنا نأمل أننا تجاوزناها بعد انبلاج فجر الحرية والديموقراطية على البلاد والعباد..