ارتدى لحافا ملتهبا وخرّ صريعا ليتحوّل إلى كتلة من لهيب..ويرسّخ برحيله الدرامي،ونهايته -الإغريقية-قناعة ترسخت لديه ولدى ملايين التونسيين ان هذا الوطن يضيق على مواطنيه بفعل الاستبداد والفساد،وطن حولته آلة القمع عبر عقدين ونيف من الظلم والظلام،الى سجن،الداخل اليه مفقود والخارج منه مولود،قناعة ملايين التونسيين الذين اكتووا بنار الاستبداد في صمت فأشعلتهم نبران "البوعزيزي" عزما على القطع مع هذه العصابة وبناء وطن يتسع لابناءه،وطن رحب رحابة أحلامهم،رحابة الأمل الذي لم يذبل في غد مزهر يصنعونه. لقد كانت الثورة التونسية تتويجا لمسار طويل من الحراك الشعبي، تجلى في عدة مناسبات أهمها أحداث جانفي 1978 وأحداث جانفي 1983 او ما يسمى ب"أحداث الخبز" ، تواصلت المسيرة النضالية لشعبنا أملا في التحرر والانعتاق مع أحداث صائفة 1987، وبدايات التسعينات، وصولا الى أحداث الحوض المنجمي في شتاء وربيع 2008. اذا فالثورة التونسية ليست حدثا مفاجئا ولا مقطوعا في الزمن، بل هي مسيرة توجت في 17 ديسمبر 2010 باندلاع شرارة الثورة من سيدي بوزيد وامتداد لهيبها في اتجاه بقية مناطق البلاد. من مهد الثورة بسيدي بوزيد،من الرقاب،من منزل بوزيان،من مدن وقرى وأرياف سيدي بوزيد كانت البداية،من الأرض التي استعصت على البايات وكانت شوكة في حلق المستعمر وحضنا لليوسفيين،من هناك اندلعت شرارة الثورة،ثورة تعدت حدود الجغرافيا التونسية لتمتد الى دول عربية أخرى،انها الثورة التونسية،في تجلياتها الخلاقة..إنها الثورة المجيدة:المثال والنموذج. قلت الثورة التونسية الخالدة التي تقتادك من يد روحك،وتمضي بك إلى فردوس الطمأنينة،بل ربما إلى النقيض.فأنت إزاء هذا الفعل الإنساني الجبّار،حائر على غير مستوى،ثمة دم أريق ولم تكن تملك سوى الحبر،وما من حبر يرقى إلى منصة الدّم.وحتى حين يمور الدّم في جسدك باحثا عن مخرج،فإنّك حينئذ ثائر لا شاعر.وليس معنى هذا أنّ الثورية تنافي الثقافة،أو أنّ الثقافة متعالية على الميدان،ولكن لابد من تفادي خلط الأوراق،فلا يمكن للمارسة أن تتحوّل إلى حكم قيمة أدبي،مع أنّ الحبرَ عرضة لإختبار دائم-لقد خلصنا من ترف الكتابة للكتابة وهي ذي الثورة،بوهجها وضرائبها البشرية،تعيد إنتاج السؤال التقليدي عن جدوى الكتابة،وإذا كان السؤال قاسيا أو عصيا على الجواب،فلنبحث عن صيغة ثانية:” هل من عزاء في الكتابة؟” ويرسلك هذا السؤال إلى مستوى آخر من المشكلة،يتصل هذه المرّة بكينونة المثقف المتورّط بوجوده في زمن ملتهب:” هل قدرك أن تلبس هذا اللبوس الماسوشي،مقرّعا حيّزك الفيزيائي المحدود،بدعوى عدم صعوده إلى لحظة الإشتباك؟..وحين يدخل المثقف العضوي-مع الإعتذار من غرامسي-على الخط،فإنّك في مستوى ثالث من الحيرة:كيف أمارس كمثقف وكيف أكتب كثائر؟ وفي كلتا الحالتين:ألست (بضم التاء) مثقلا بأسئلتي الوجودية،أنا المفرد في فضاء محذوف؟ فكيف أتحوّل إلى خليط فعّال في نسيج الجماعة؟ولك أن تعتبر،في طفرة يأس أو ضجر،أنّ ماسبق ليس إلا دلعا لغويّا،وأنّ عليك أن تعود إلى سؤال الأسئلة عن دورك،مثقفا في هذه الملحمة.وساعتها لا مناص من مستوى جديد يدعم حيرتك الأولى،هو أنّ الثورة هي نشيد الجماعة ومرآتها،وليس الفرد إلا نبرة في إيقاعها الجمعي المتكاثر. بهذا لن تكون ذاتك إلا بالحد الذي تسمح به الثورة،فهي تهدّد الثقافة بالتنميط. وحين تنأى عن الإمتثال للثقافة السائدة،فمعنى ذلك أنّك اخترت الغربة-أمغترب ومثقف ثوري في آن؟ كيف تلتئم المعادلة؟ قد لا أجانب الصواب إذا قلت أنّ حالة تونس تبقى متطورة وناضجة.. إنها جسد مدني سياسي تمايزت فيه الأعضاء، ويكاد يكون مكتمل النمو..ولنكن على يقين أنّ الثورة التونسية المجيدة مبثوثة في الأنساغ كلّها،وعلى من يبحث عن موقع بجوارها،أو في مدى توهّجها أن يعثر على ثورته،لغة ورؤى،وأن يستغيث بها للتحرّر من المديح الذي تورّطت به الثورات العربية كلّها خلال نصف قرن.. وإذن؟ هي ذي تونس إذن.زمان تكثّف حتى غدا مكانا وحكايات،أقاصيص وملاحم،سماء تنفتح في وجه الأرض،أرض تتسامى وتتخفّف من ماديتها حتى تصبح كالأثير.ثم يلتقيان.الأرض والسماء يغدوان واحدا.. وقد أبدع الشاعر الراحل نزار قباني حين قال عنها (تونس):"ياتونس الخضراء جئتك عاشقا ***وعلى جبيني وردة وكتاب إني الدمشقي الذي احترف الهوى*** فاخضوضرت بغنائه الأعشاب أحرقت من خلفي جميع مراكبي***إن الهوى ألا يكون إياب أنا فوق أجفان النساء مكسر*** قطع فعمري الموج والأخشاب لم أنس اسماء النساء ..وإنما*** للحسن أسباب ولي أسباب ياساكنات البحر في قرطاجة***جف الشذى وتفرق الأصحاب على سبيل الخاتمة: ان التونسيين الذين قالوا"لا" بملء الفم والعقل والقلب والدم لدولة الظلم والقهر والظلام لن يرضوا بالعودة الى مربع الإستبداد،فأحلامهم غدت أقوى،وفي المقابل وسيحولون أحلام الطغاة الى كوابيس ولن يكون الوطن إلا لأبنائه الذين سقوه دما وورودا فوهبهم حرية وانعتاقا. لست أحلم..لكنه الإيمان الأكثر دقة في لحظات التاريخ الحالكة..من حسابات حفاة الضمير..
*ايزيا برلين (1907 -1998) مفكر بريطاني من أصول روسية. أستاذ النظرية الاجتماعية والسياسية في جامعة أكسفورد،عرف كمنظِّر سياسي، ومؤرخ أفكار بالدرجة الاولى. واشتهر بدفاعه عن الليبرالية والتعددية وهجومه على الأنظمة الشمولية والتعصب الفكري. وتُعد نظرياته حول الحرية نقطة انطلاق أساسية للكثير من المناقشات السياسية الحديثة والمعاصرة.