وسقطت حكومة الحبيب الجملي بعد مشاورات ماراطونية دامت قرابة الشهرين وبعد أخذ ورد كلف البلاد هدر الكثير من الوقت وبعد تغير التحالفات من حكومة سياسية إلى حكومة كفاءات وطنية غير متحزبة ومن حكومة ثورية تظم الأحزاب المحسوبة على منظومة الثورة إلى حكومة تظم داخلها الأحزاب المحسوبة على الفساد والمتعلقة بأفرادها شبهات فساد ومن حكومة تظم حركة النهضة والتيار الديمقراطي وحركة الشعب وائتلاف الكرامة إلى حكومة من دون هذه الأحزاب سقطت حكومة الحبيب الجملي بعد أن رفع حزب التيار الديمقراطي من سقف مطالبه وزاد من شروطه التي اعتبرت تعجيزية والتي رغم شططها استجابت لها حركة النهضة ووافق عليها الحبيب الجبلي وبها تحصل على ثلاث حقائب وزارية اثنان منها حسب رغبته ولكنه تراجع في آخر المطاف وانسحب من المشاركة في الحكومة لتحدث مفاجأة الساعات الأخيرة لتندلع الأزمة السياسية التي أدت الى تصدع التحالف الذي كاد أن يؤدي إلى تشكيل حكومة قوية وبسببها دخلت البلاد في منعرج آخر وخيار ذهب إليه الحبيب الجملي مجبرا وهو تشكيل حكومة من كفاءات وطنية غير متحزبة وهو خيار كان منذ الوهلة الأولى محفوفا بكثير من المخاطر لعل أبرزها فقدانه الحزام السياسي والقدح المنتظر في الأشخاص المختارة لهذه الحكومة وهذا ما حصل فعلا حيث سقطت الحكومة المقترحة بعد عدم التصويت لها في جلسة تاريخية في مجلس نواب الشعب الذي شهد لأول مرة في تاريخ تونس سقوط حكومة من خلال التصويت الديمقراطي عليها . واليوم وبعد سقوط حكومة الحبيب الجملي وانتهاء المرحلة الأولى من المسار الدستوري في تشكيل الحكومة و الذي منح الحزب الفائز في الانتخابات التشريعية مهمة تشكيلها والدخول في المرحلة الثانية من هذا المسار الدستوري والتي نص عليها الدستور وهي اللجوء إلى تطبيق الفقرة الثالثة من الفصل 89 من الدستور والتي تتعرض إلى حالة عدم تكوين الحكومة في الأجل المحدد لها وقيام رئيس الدولة بعد هذا الفشل و في غضون عشرة أيام بإجراء المشاورات اللازمة مع الأحزاب والائتلافات والكتل النيابية لتكليف الشخصية الأقدر من أجل تكوين حكومة على أن لا يتجاوز ذلك أجل شهر وهو المسار الذي يعتبره البعض ويصفه بكونه مسار " حكومة الرئيس " في إشارة إلى أن رئيس الجمهورية هو من يتولى في هذه المرحلة تشكيل الحكومة باختياره الشخصية الاقدر لهذه المهمة بدلا عن الحزب الفائز في الانتخابات التشريعية بمعنى انتقال سلطة القرار من الأحزاب إلى رئيس الدولة . ورغم أن نعت هذا المسار الجديد في تشكيل الحكومة بعد تولى رئيس الدولة زمام المبادرة بمسار حكومة الرئيس هو توصيف خاطئ إذ أنه ليس هناك في نظامنا السياسي ما يسمى بحكومة الرئيس التي تقترب أكثر من الأنظمة السياسية التي يكون فيها رئيس الدولة مسنودا بكتلة برلمانية أو يتوفر على حزب سياسي في البرلمان إلا أن المسار الحالي الذي يديره قيس سعيد بعد سقوط مشروع حكومة الحبيب الجملي سوف يفرض بالضرورة خيارا جديدا يجعل كل الأحزاب في مأزق حقيقي وخاصة الأحزاب التي فعلت كل ما في وسعها من أجل إسقاط حكومة الجملي هذا المأزق يتمثل في مدى صدقية هذه الأحزاب في كل ما قالته ومدى التزامها بمطالبها السابقة وشروطها التي تمسكت بها للمشاركة في حكومة النهضة. نقول هذا الكلام لأن الأنباء القادمة من كواليس الأحزاب وما هو معلن ومصرح به في وسائل الإعلام أن الأحزاب التي ساهمت في اسقاط حكومة الجملي سوف تخفض من سقف مطالبها وأن الأحزاب التي كان صوتها عاليا في مشاوراتها مع حركة النهضة سوف لن نسمع لها كلاما مسموعا وأن الشروط التي وضعها التيار الديمقراطي في السابق سوف يتم التخلي والتنازل عنها اليوم ليعوضها خطاب آخر منمق ومزين بمساحيق الوطن والمصلحة الوطنية والتبرير بأن المرحلة لم تعد تسمح بمزيد إضاعة الوقت وبالتالي سوف نجد الجميع يقبلون مرغمين بأي حل وبأي حكومة وبأي شخصية يكلفها رئيس الجمهورية من أجل المحافظة على مصالحهم التي باتت اليوم مهددة . اليوم بدأت لغة الأحزاب تتغير وتتلون ومعها بدأ التراجع عن المطالب والشروط التي كانت معرقلة لتشكيل حكومة الجملي واليوم سمعنا غازي الشواشي القيادي في التيار الديمقراطي يقول صراحة بأن التيار لن يطالب بالوزارات التي كان قد اشترطها في حكومة الجملي وبأنه لن يضع شروطا للمشاركة في الحكومة القادمة وبأنه اليوم معني بالحكم ولم يعد يرغب في البقاء في المعارضة ونفس الشيء بالنسبة لبقية الأحزاب الأخرى لنخرج بانطباع عام وهو أن المسرحية التي عشنا على وقع فصولها لقرابة الشهرين كانت من أجل إسقاط الحكومة التي كلفت حركة النهضة بتشكيلها وأن الشروط التي وضعت لم تكن شروطا مبدئية وإنما كانت استراتيجية تم اتباعها لإفشال مسار تشكيل الحكومة لا غير. واليوم وبعد أن اتضحت الصورة ووضح المشهد السياسي ما هي الخيارات الممكنة لتشكيل الحكومة من جديد ؟ وما هي الإمكانيات المتوفرة لتكوين حكومة أفضل من حكومة الجملي ؟ في الحقيقة أمام ما شاهدناه من مصلحية وانتهازية و مناورات فإنه ليس أمام الأحزاب السياسية بعد أن وضعت نفسها في ورطة الكثير من الخيارات لتجد نفسها أمام خيارين أحلاهما مر فإما القبول بالشخصية التي سوف يعينها الرئيس حتى وإن لم يرضوا عنها وإما الذهاب إلى حل البرلمان وإجراء انتخابات تشريعية سابقة لأوانها وعندها لا نقول كما قال المثل العربي القديم " جنت على أهلها براقش" وانما نقول " على الباغي تدور الدوائر"