في إطار النشاط الفكري الأسبوعي " أربعاء الباحث " الذي تديره وتشرف عليه الباحثة الدكتورة هدى البهلول نظم مركز الدراسات والبحوث الاقتصادية " السيراس" ندوة فكرية في مجال الاقتصاد استضاف لها الباحثة التونسية الشابة ألفة حمدي المتحصلة على شهادة الماجستير في الهندسة من كلية ليل الفرنسية وشهادة الماجستير في مجال إدارة المشاريع الكبرى من جامعة تكساس الأمريكية وهي إلى جانب ذلك صاحبة خبرة في مجال تخصصها اكتسبتها من خلال عملها في العديد من الشركات الأمريكية وهي الآن من صاحبات الأعمال حيث تدير شركة لحسابها الخاص. استضافة مركز الساراس للدكتورة الفة حمدي كان بدافع التعرف على رؤيتها لكيفية تطوير الاقتصاد التونسي الذي يشكو ضعفا هيكليا استعصى عن المعالجة إلى حد الآن ومن وراء هاجس التعرف على نظرة اقتصادية أخرى للحلول الممكنة لكل المتاعب وهي كثيرة و التي يعاني منها اقتصادنا وماليتنا العمومية وفي الأخير هي ندوة جاءت لمناقشة مقاربة اقتصادية مختلفة ورؤية أخرى لهذه الباحثة عما يتداوله المحللون الاقتصاديون التونسيون وعما هو سائد في الثقافة والفكر الاقتصادي المحلي من أجل الوقوف على مكان الخلل في طريقتنا لإدارة الأزمة الاقتصادية التي نمر بها منذ الثورة ولم نقدر إلى حد الآن على تجاوزها. تنطلق ألفة حمدي في حديثها عن واقع الاقتصاد التونسي وعن وضعه الحالي وكل الصعوبات التي يمر بها وتكبله من أن يستعيد عافيته من معطى يتفق حوله الجميع مفاده أن البلاد بعد الثورة قد قطعت أشواطا في المسار السياسي وهي على مشارف تكوين نظام سياسي مستقر ونجحت تقريبا في ما يعرف بالثورة السياسية في حين أن البلاد قد تخلفت كثيرا في المسار الاقتصادي وتعثرت أكثر في تحسين الوضع الاجتماعي ولم تحقق ثورتها الاقتصادية والاجتماعية المرتقبة. المعطى الآخر الذي تنطلق منه ألفة حمدي هو رفضها تكرار ما يردده رجال الاقتصاد كلما تحدثوا عن الوضع الكارثي لاقتصادنا والحالة المتعبة للمالية العمومية بالتركيز على بعض مؤشرات بعينها منها نسبة النمو الضعيفة ونسبة التداين المرتفعة والخلل في الميزان التجاري والارتفاع في نسبة التوريد مقارنة بنسبة التصدير وحال الدينار التونسي والعجز الحاصل في الميزان التجاري فكل هذه المعطيات وغيرها هي حسب ألفة حمدي ليست هي المدخل الصحيح لمعالجة الوضع الاقتصادي وبالتالي تقديم رؤية اقتصادية تسمح بالإقلاع فهذه الطريقة في المعالجة من خلال هذه المعطيات تعتبرها طريقة بالية وغير ذات جدوى وهي ملاحظة في مكانها حيث تعودنا كلما ظهر مختص في الاقتصاد ليتحدث عن الوضع الراهن إلا وبدأ بسرد هذه المعطيات من أجل ذلك فإن هذه الباحثة تطرح مقاربة أخرى بالاعتماد على مدخلات مختلفة تقوم على ثلاث ركائز : الركيزة الأولى هي التعرف على طبيعة الحالة الآن وأهم ما يميزها والركيزة الثانية هي التخلي عن الأفكار الخاطئة في الاقتصاد والركيزة الثالثة تقديم نوايا استراتيجية للنهوض الاقتصادي بدل الحديث عن منوال اقتصادي الذي يتطلب إعداده وتركيزه على أرض الواقع الكثير من الوقت. بالنسبة لتشخيص وضع البلاد اليوم فإن ألفة حمدي تعتبر أن البحث عن مخرج للاقتصاد التونسي من خلال الحديث عن نسبة النمو الضعيفة والتركيز على تحقيق نسبة نمو مرتفعة و التي يعتقد أنها سوف تحقق النمو وبالتالي مواطن شغل وتقدر على تحريك الاقتصاد هو حديث غير ذي جدوى على اعتبار أنه حتى لو حققنا كل سنة نسبة نمو في حدود 4% فإن البلاد تحتاج إلى 124 سنة حتى تتمكن من الالتحاق ببلد كألمانيا مثلا وحتى يستطيع المواطن التونسي أن تكون له مقدرة شرائية كالتالي يتوفر عليها المواطن الألماني ويكون له نفس مستوى عيشه وهذا يعني أن الحديث على أن الحكومة قد حققت هذه السنة نسبة نمو في حدود 1% أو 2% فهذا لا يعد انجازا لأنه حتى وإن تمكنت من تحقيق نسبة نمو في حدود 4 % فإن ذلك لن يغير من واقع البلاد والناس شيئا خاصة إذا علمنا بأن بلدا مجاورا لنا كمالطة فإنه يحقق سنويا نسبة نمو بين 8 و9 % وهذه المسألة المتعلقة بنسبة النمو تجعلنا وتفرض علينا أن نفكر بطريقة مختلفة و أكثر عمقا . مسألة أخرى توضح واقعنا وعلينا أن نأخذها بعين الاعتبار ونحن نبحث عن آليات جديدة لمعالجة الاقتصاد وهي أن الذي يتحصل اليوم في تونس على ديبلوم أو شهادة علمية فإن هناك خطر و صعوبة كبيرة في أن يحصل على عمل بما يعني أنه كلما تعلمنا كلما قلت فرص العمل . واليوم حسب الاحصائيات الرسمية الداخلية والخارجية فإن لدينا سنويا حوالي 120 ألف طفل يغادرون مقاعد الدراسة وينقطعون عن التعليم وهذا المعطى يعد مؤشرا اقتصاديا مهما للغاية لأن هؤلاء المنقطعين عن الدراسة هم من سوف يكونون الطبقة العاملة والشغيلة والمفكرة خلال العشر سنوات القادمة للاقتصاد علما بأن المستوى العلمي لهؤلاء الصغار مرتبط بتطور النمو وهذا يعني أن المغادرين للدراسة اليوم فان المنظومة الاقتصادية خلال سنة 2030 لن نقدر على استيعابهم والتحسين من حالهم إذا لم تتحسن نسبة النمو وتصل أي من فوق 6 % أي إلى حدود 10% وهذا على يبدو صعب في ظل تفكير لا ينتج إلا العكس. المعطى الثالث لواقعنا هو أنه لدينا اليوم حوالي نصف مليون تونسي مدمن على المخدرات و كل الدراسات تقول بأن الادمان مرتبط بالاقتصاد وبالتهريب وبالاقتصاد الموازي وإذا علمنا أنه لدينا عدد كبير من المنقطعين عن التعليم وأن الدولة لا تفعل لهم شيئا وهي غير قادرة على مرافقتهم وأن الكثير منهم عاطل عن العمل والدولة غير قادرة على تشغيلهم والكثير منهم مدمن على المخدرات التي توسع نطاقها ولدينا نسبة نمو لا توفر مواطن شغل بالقدر المطلوب فإن نتيجة كل ذلك هو تنامي الجريمة بكل أنواعها وهذا يعد مشكلا ومأزقا اقتصاديا على اعتبار وأن اقتصادنا ينتج هذه النوعية من المواطنين التي نجدها اليوم وسوف تتواصل إذا لم نحسن من الوضع الاقتصادي. المعطى الرابع هو أنه لدينا 20 % من الشركات التي يتم انشاؤها لا يمكن لها أن تصمد لأكثر من 3 سنوات لتجد طريقها بعد ذلك إلى الحل والتلاشي وهو مؤشر خطير على حالة الاستثمار و قدرة اقتصادنا على احتضان الشركات الجديدة التي يعول عليها لخلق الثروة وتوفير مواطن شغل وهذا الموضوع يجرنا إلى موضوع إنشاء الشركات والصعوبات التي تصاحب كل من يفكر في إنشاء شركة في تونس في علاقة بالهياكل المتداخلة والمدة الزمنية والوثائق المطلوبة وهي كلها صعوبات لا تساعد على المبادرة الفردية . هذا عن صورة واقعنا اليوم في علاقة بالاقتصاد أما عن الأفكار الخاطئة في الاقتصاد والتي نحتاج أن نتخلى عنها وتغييرها ونحن نرسم ملامح اقتصاد جديد قادر على تحقيق النمو والتقدم فهي أولا ضرورة التخلي عن فكرة أن كل ما يهم الشأن العام لا بد أن يقرره السياسيون دون غيرهم وهي فكرة تطورت في الغرب وهي من الأخطاء الاستراتيجية التي نجدها في التفكير الاقتصادي في تونس حيث أن الاقتصاد لم يعد اليوم شأنا سياسيا وإنما شأن الكفاءات كذلك الذين إما أن يكونوا جزءا من الحل ويهتموا بالشأن العام أو جزءا من المشكل حينما يتخلون عن ذلك . ثانيا : علينا أن نتخلى عن فكرة أن الدولة يجب أن يكون لها دور منحصر في كل ما هو خدمات فقط وعلينا أن نقبل بهذه الفكرة تحت الاملاءات و الضغوطات الخارجية . إن الدولة اليوم في التفكير العالمي هي جهة مستثمرة ولا بد أن تكون كذلك وهي ليست جهازا لتقديم الخدمات فقط وفكرة أن الدولة عليها أن تتخلى عن التدخل في الكثير من المجالات العامة والحيوية في حياة المواطن لحساب جهات أخرى هي فكرة خاطئة تطبق اليوم في الدولة القطرية فلو نظرنا إلى دول أخرى كالولايات المتحدةالامريكية فإننا نجد أن هذا البلد ينفق نصف الناتج الوطني الخام على الشركات والمؤسسات الصغرى والمتوسطة ومن دون هذا التدخل فإن أمريكا لا يمكن لها أن تضمن مواصلة تقدمها ومن دون استثمارات الدولة لا يمكن أن يتحقق النمو و بلد ككوريا الجنوبية فإن الناتج الوطني الخام متأت أساسا من استثمار الدولة في المواد الكيميائية. ثالثا : علينا أن نتخلى عن فكرة أن كل التوصيات التي تأتينا من الدول الغنية ومن المؤسسات العالمية هي دوما صحيحة وبالتالي علينا أن نطبقها وهذا يعني أن القيادة السياسية عليها ان تفهم أن التوصيات التي توجه إلينا كأي توصيات نأخذها وندرسها وتقيم جدواها ومخاطرها ثم نحكم عليها ولا أن نأخذها مسلمة وكمثال على ذلك ما حصل مع دولة منغوليا في التسعينات من القرن الماضي حينما خضعت للتوصيات وتولت فتح سوقها على التجارة الحرة غير المراقبة فأصبحت في ظرف 5 سنوات دولة بدائية المشكل أننا تخضع للتوصيات ونفتح أسواقنا بكاملها على العالم من دون استراتيجية واضحة للتجارة وللمناعة فتكون النتيجة أن رؤوس الأموال الوطنية تنتقل من الصناعة إلى التجارة وتتحول الصناعة إلى نشاط تجاري ويصبح الصناعيون تجارا يبيعون العلامات التجارية الأجنبية التي لها انعكاس سلبي على الصناعة والتجارة المحلية فكانت النتيجة هي غلق الشركات والمعامل المحلية واستيراد المنتجات من الخارج ومن تداعيات هذه السياسة أن النسيج الصناعي المحلي يتراجع ليحل محله المنتوج الأجنبي. رابعا : الخطأ الآخر الذي يجب أن نتخلى عنه ما يروج من أن القطاع الخاص هو الذي يصنع التحولات ويحقق النمو وبالتالي يجب أن توكل إليه مهمة التنمية بدل الدولة وحسب هذا الرأي الخاطئ فإنه كلما فسحنا المجال للقطاع الخاص إلا وحصل التطور . إن فكرة أن الدولة يجب أن ترفع يدها عن الاقتصاد وأن تتخلى عن التدخل وعن الرقابة الاقتصادية هي فكرة خاطئة ومن توابع هذه الفكرة أن المشاريع الكبرى تحتاج إلى أموال لا تقدر عليها الدولة في حين يمكن القطاع الخاص أن يقوم بها لكن اليوم فإن المشاريع الكبرى التي يحتاجها المجتمع كي يتقدم تقوم بها الدولة في الكثير من الدول غير أن تمويلها يكون عالميا ذلك أنه مثل هذه المشاريع الضخمة يجب أن ترصد لها تمويلات خارجية حتى تقدر الدولة أن تقوم بها وتقدر أن تتحكم فيها لفائدة الصالح العام. خامسا : فكرة أخرى خاطئة وهي أنه لتحسين الاقتصاد يجب القيام بإصلاحات في المالية وإصلاحات في الجباية ذلك أن الدراسات التي حصلت في هذا المجال تفيد بأن القطاع المالي في تونس يتبع القطاعات الأخرى فهو في العملية التنموية عامل من بين العوامل وليست له الأولوية وهو عامل غير مؤثر. آخر خطأ يجب التخلي عنه يتعلق بالفكرة التي تقول طالما وأن جارتنا ليبيا وضعها العام غير مستقر وتهددها الحرب الداخلية فإنه لا يمكن لتونس أن تتطور فاستقرار ليبيا يجلب لتونس النماء هذه فكرة خاطئة حيث أن التجارب العالمية قد أفادت أنه يمكن أن نحقق نتائج هامة ومعجزة اقتصادية في ظروف صعبة ويمكن أن نحول الصراع والمشكل الجغرافي إلى عنصر إيجابي يمكن أن نستفيد منه. أما بخصوص النوايا الاستراتيجية فإن الفة حمدي تقصد من ورائها مساعدة الساسة على اتخاذ القرارات الكبرى وأول هذه النوايا هي جعل مؤسساتنا مؤسسات دامجة أي أن تكون لنا رؤية اقتصادية لا تضع الحواجز أمام الشعب حتى يستطيع الأفراد أن يدخلوا إلى عالم المشاريع والشركات وعالم النشاط الاقتصادي وهذا يتطلب منا القيام بثورة في الاقتصاد لإلغاء جميع القرارات والرخص السابقة التي منحت و أعطيت قبل الثورة والنية الاستراتيجية هذه تقوم على تعويض كل الرخص في الاستيراد بنسبة توزع على كل من يريد ممارسة نشاط تجاري. النية الثانية تهدف الى جعل الاقتصاد يستهدف العدد أي اقتصاد يعمل على ادخال كل النشطاء الاقتصاديين في القطاع الرسمي وبذلك يقل مجال القطاع الموازي فكلما سهلنا الولود إلى الاقتصاد الرسمي و سهلنا النشاط فيه إلا وقلصنا من مجال القطاع الموازي التي ينشط خارج القطاع الرسمي الذي عليه أن يتحسن في طريق وضع إجراءات تسهل من خلق الشركات وتجعل كل الانشطة مهما كان حجمها تمر بالضرورة عبر المسار الرسمي وعبر الشركات واليوم الاقتصاد العالمي يكرس النظرة الجديدة التي لا تقوم على وجود الاجراءات والشروط الادارية لبعث الشركات وخلق الاستثمار . النية الثالثة تتعلق بمجال الطاقة وكيفية تعامل الدولة مع هذا الموضوع الذي يجب أن يكون فاعلة فيه لا تابعة له اليوم مصادر الطاقة التقليدية يتم التخلي عنها تدريجيا لصالح الطاقات المتجددة وخاصة الطاقة الشمسية فهل وضعت الدولة استراتيجية للانتقال الطاقي والتحول نحو الطاقات المتجددة ؟ و هل حققت الدولة استثمارات في هذا الميدان الذي هو وحده كفيل بتغيير وجه البلاد وخلق الثروة والنمو ومن وراء ذلك توفير قدرة تشغيلية كبرى للغاية خاصة إذا علمنا أن الاتحاد الاوروبي هو أول مستثمر وأول ممول للطاقات الجديدة فماذا فعلنا حتى نستفيد من هذه الفرصة وإذا علمنا ان الصين قد خصصت أموالا طائلة وأنشأت 17 مؤسسة لإنتاج الطاقة الشمسية فهل استفدنا مما يتيحه هذا البلد حتى نستفيد منه في انجاح هذا المشروع الضخم . النية الأخرى تتعلق بترسيخ ثقافة المحاسبة والمساءلة وعدم اعتبار أن الخصخصة هي الحل دوما وهذا ليس صحيحا في حين أن الحوكة والمتابعة هي الأصل .