أول مشهد بدأ يختفي من العالم العربي بسبب التحولات العميقة التي هزته هو مشهد السياف مسرور الذي كان رمزا أدبيا للحكم المطلق وعنوانا عربيا تاريخيا لجمع كل السلطات في يد الحاكم العربي ولم يكن السياف مسرور سوى الجلاد الجاهز لتنفيذ أي حكم فردي وفي الحال بدون تردد أو نقاش. وجاءت مشاهد البرلمان التونسي و التصويت على الحكومة يوم الأربعاء الماضي لتؤكد لي و لغيري أن الديمقراطية بدأت تبدد أوهام الإستبداد العربي وبالطبع فإن غياب السياف مسرور إلى الأبد سوف يفتح عهدا حضاريا للأمة يعود فيه للإنسان المواطن حقه في الحياة بدون رعب السياف وفي منأى عن الأمزجة والطاغوت. صورة السياف مسرور الواقف بين أيدي أمير المؤمنين هارون الرشيد ظلت تداعب خيالنا منذ الطفولة كأنها ملحمة عربية صميمة حين بدأنا نقرأ أمهات كتب الأدب العربي مثل كتاب الأغاني لابي فرج الأصفهاني وكتاب العمدة لابن رشيق القيرواني و كذلك أدب الخيال مثل ألف ليلة و ليلة و تواصلت صورة السياف مسرور ترافقنا مع قدوم الأفلام المصرية الأولى أبيض و أسود و المستوحاة من قصص ألف ليلة و ليلة و التي نرى فيها من خلال شاشاتنا القديمة ذلك الرجل الأسود البدين القوي مفتول العضلات و الممتشق سيفا ضخما وهو يأتمر بأوامر الخليفة الأموي أو العباسي الذي كان يجسده عادة الممثل المصري عباس فارس بصوته الجهوري كلما ناداه: يا مسرور اقطع رأسه! وكان يقوم بدور مسرور نفس الممثل المصري على مدى ربع قرن ونظل نحن الأطفال المساكين نرتعد في قاعة السينما مع الضحية الذي لا يملك استئنافا ولا نقضا للحكم البات والفردي ويغمض الحساسون منا وذوو القلوب الرقيقة عيونهم إلى أن يمر مشهد قطع الرأس. وما كان أكثر الرؤوس المتدحرجة في بلاطات الخلفاء والملوك عبر التاريخ العربي ظلما وعدوانا وما أكثر السيافين في كل العصور العربية المظلمة! ومع مرحلة الاستعمار في بلاد المغرب العربي عشنا بالفعل مأساة السياف مسرور لكنه هذه المرة يخدم ركاب المحتل الفرنسي ويلاحق المجاهدين ويغتال المقاومين ورأينا مسرور يرفع سيفه البتار لينال من حقوقنا في الاستقلال والحرية وهو موظف في إدارة المستعمر. و حين حصلت بلداننا على استقلالها تذبذبت حكوماتنا الوطنية بين انتهاج نهج الوفاق والمصالحة و بين إتباع طريق تصفية الحسابات بين الفرقاء و الخصوم و المتنافسين على السلطة فعاد شبح السياف مسرور يرتاد بلاطات الحكم في مرحلة ما بعد الاستقلال وشهدت تونس فتنة الانقسام الخطير و الدموي بين بورقيبة و غريمه و رفيق كفاحه المرحوم صالح بن يوسف،و استعمل بورقيبة نفس السياف ضد الملك طيب الذكر الأمين باشا باي و أسرته و ضد المناضل الكبير الطاهر بن عمار ثم ضد أقرب أبنائه أحمد بن صالح و أخيرا ضد أوفى الأوفياء له محمد مزالي و كذلك فعل بعده وريثه زين العابدين بن علي. وشهدت المملكة المغربية صراعا بين الملك محمد الخامس والسلطان بن عرفة وعاشت الجزائر فواجع التصفيات بين فصائل الدولة بعد التحالفات في مرحلة الثورة وكان آخر ضحاياها المرحوم الرئيس محمد بو ضياف عام 1992 وعشرات الألاف من المواطنين. وأنا أكتفي بذكر السياف ألمغاربي مسرور لأني لو فتحت معاجم تاريخ السياف المشرقي مسرور لاحتجنا إلى مكتبات كاملة. ولكل مثقف ومواطن مصري وشامي وعراقي وسوداني ويمني وليبي أن يستعيد التاريخ القريب لبلاده ليدرك بأن السياف مسرور مصري وشامي وعراقي وسوداني ويمني وليبي وبأن ضحاياه بالآلاف منذ أكثر من نصف قرن. وظلت نداءات الحكام للسياف مسرور هي ذاتها مع بعض التغيير في التفاصيل ومع انتقال السلطة بين يوم وليلة من حاكم إلى حاكم بالانقلابات وبيانات الساعة الأولى تغيرت ملامح الديكور وتبدلت الشعارات البراقة وتحولت الأساليب لكن الذي لم يتغير هو السياف مسرور. بقي كما هو بسيفه المهند يقف وراء العرش ويأتمر بأوامر صاحب العرش وينفذ ويطيع مع تغييرفي الرؤوس المقطوعة بل أنك تحسبه لا ينظر من هو الجلاد ومن هو الضحية ولا يهمه من الذي يعطي الأمر ومن الذي يروح في داهية المهم بالنسبة إليه هو رفع البتار ليهوي به على رقبة بائس مغلول في القيود دون أن ترف لمسرور عين ولا أن تصيب يده رعشة وبلا أي حزن ولا تردد ولا سؤال ولا ندم يواصل أداء وظيفته كالآلة الخرساء العمياء انه مسرور العربي الأبدي الأزلي: ماكينة القتل مسرور الدائم منذ خمسة عشر قرنا من التاريخ العربي! هو ذاته الذي رأيناه ليلة من ليالي يوليو 1958في بغداد يقتل الملك الشاب فيصل ورئيس حكومته نوري السعيد ثم رأيناه هو ذاته يقتل قاتلهما عبد الكريم قاسم مؤسس الجمهورية العراقية والذي كان على سدة الحكم ذات يوم من أيام يوليو1961. ثم جاء صدام حسين فقتل من قتل إلى أن قتلوه رحم الله الجميع وغفر لهم ومنطق الرأس المقطوعة كان هو مبدأ الحكم في دولة المماليك حيث لا يبايع حاكم على العرش إلا بعد أن يقدم للجمهور رأس سلفه مقطوعة فتحل البيعة ويستوي القاتل الجديد على العرش منتظرا تنفيذ نفس المنطق يوما من الأيام على يد شقيق أو صديق أو عدو متربص لأن مسرور يلازم مكانه بطلعته العملاقة وبسيفه المتعطش للدم لا يتحرك إلا بأمر.