في الندوة الصحفية الأخيرة التي جمعت وزير الصحة بوزير الداخلية لتقديم آخر المستجدات المتعلقة بانتشار فيروس كورونا في البلاد وتوضيح المعطيات المحينة بخصوص الخطة التي وضعتها الحكومة للتوقي من هذا الوباء وكل الاستعدادات التي وضعتها لمجابهته والتقليل من عدد الإصابات بالعدوى وكل الامكانيات الطبية التي وضعت على ذمة الجهة المكلفة بإدارة هذه الأزمة ، قيل الكثير من الكلام العلمي الدقيق حول خطورة هذا الفيروس وحول تمظهراته وأشكال تمدده غير أن الكلام الأكثر خطورة وإفادة هو حديث الوزيرين عن الانفلات الشعبي الذي ظهر في اليومين الأخيرين ومظاهر عدم التزام جانب من الشعب بالحجر الصحي وتمردهم على الاجراءات الوقائية التي طالبت بها الحكومة حتى لا تكثر الإصابات بالعدوى وكلام آخر حول حالة اللاوعي واللامسؤولية التي ظهرت عند الكثير من الناس من الذين لم يعبؤوا مطلقا بخطورة الوضع الصحي وواصلوا الخروج إلى الأماكن العامة وإلى الشوارع والأسواق من دون التقيد بما هو مطلوب منهم من إجراءات وقائية في مثل هذه الفضاءات ما يجعل الأزمة تتواصل و انتقال الوباء يتمدد أكثر و معه إمكانية خسارة كل ما بنى إلى حد الآن وهدم كل العمل الذي بذله أصحاب السترات البيضاء و قامت عليه الخطة التي رسمتها الوزارة للتحكم في الوضع و التقليل من حجم الخسائر في الأرواح التي قد يتسبب فيها الوباء لو لم يلتزم الناس بإجراءات البعد الاجتماعي الضروري. فكيف نفسر هذا السلوك الذي وصف بأنه غير مسؤول عند فئات من الشعب التونسي ؟ وكيف نفهم الامتناع الذي ظهر عند البعض ورفضهم التقيد بالإجراءات المتبعة وعدم الاكتراث بكل ما يقال حول خطورة الجائحة ؟ و هل فعلا وراء هذا السلوك حالة من عدم الوعي أم أن الدافع إلى ذلك أمرآخر ؟ في آخر سبر للآراء قامت به مؤسسة " إمرود كونسلتينغ " يوم 2 أفريل الجاري حول تأثير الحجر الصحي على الحالة المادية والنفسية للشعب اتضح أن 47 % من العينة المستجوبة من التونسيين ترى بأن الحجر الصحي له تأثير كبير على حياتهم المادية مقابل 30 % قالوا بأن الحجر الصحي له تأثير نسبي على حياتهم وأن 29 % قد صرحوا بأن هذا الإجراء ليس له تأثير على الإطلاق . وأن 32 % كشفوا أن الحجر الصحي قد أثر على حياتهم المعنوية ونفسياتهم تأثيرا كبيرا مقابل 42 % رأوا أن تأثيره كان نسبيا في حين أعرب 24 % من المستجوبين عن عدم وجود أي تأثير معنوي أو نفسي للحجر الصحي في حياتهم . أما فيما يتعلق بالشريحة العمرية الأكثر تأثرا من الناحية المعنوية والتي تضررت نفسيا من هذا الإجراء فإن هذا الاستطلاع للرأي قد أوضح أن الشريحة العمرية الموجودة بين 35 و 59 سنة هي الأكثر تأثرا بالحجر الصحي من الناحية المعنوية وأن أغلب هذه الشريحة هي من الأشخاص الذين يعملون لحسابهم الخاص أو من العاطلين عن العمل على عكس الطلبة أو المتقاعدين الذين لم يتأثروا بنفس القدر ودرجة تأثر الفئة المتضررة كما أوضحت الدراسة بأن الفئات التي تأثرت معنويا أكثر من غيرها هي تلك الشريحة من الشعب التي تنتمي إلى قطاعات مهنية صغرى وتزاول عددا من الأنشطة والأعمال تتطلب تنقلات وحركة. وخلاصة هذه الأرقام وهذه المعطيات المتعلقة بدرجة تأثير إجراء الحجر الصحي على الحياة المادية والمعنوية للتونسيين أنه إذا جمعنا الأشخاص الذين تأثروا نسبيا أو لم يتأثروا مطلقا من الناحية المادية من الحجر الصحي فإننا نجد أن 61 % من التونسيين قد صرحوا أن هذا الإجراء لم يخلف لهم أي تأثير على حياتهم المادية مقابل 47 % قالوا بأن الحجر الصحي قد أثر على وضعهم المادي وأن الأشخاص الذين يتأثروا معنويا أو نفسيا من الحجر تبلغ نسبتهم جميعا 62 % مقابل 32 % كان للحجر الصحي تأثير كبير على حياتهم المعنوية وهذا يعني أن الأشخاص الذين لم يتأثر وضعهم المادي من وراء فرض الحجر الصحي ولم يخلف لهم هذا الإجراء أي تأثير يذكر على حالتهم النفسية و المعنوية هم الأشخاص الذين التزموا تقريبا بالحجر الصحي وتقيدوا بتوصيات وتعليمات الحكومة واتبعوا القرارات التي تم اتخاذها وظهرت عليهم حالة من الوعي مقبولة ومحترمة وهؤلاء ينتمون إلى شريحة توفر لديها قدر من الوعي بضرورة التقيد بإجراء الحجر الصحي أما الأشخاص الذين تأثروا ماديا ومعنويا بالحجر الصحي وتضرر وضعهم المادي فهم فئة تنتمي إلى شريحة من الشعب تعمل أعمالا يدوية وتمتهن مهن تتطلب الحركة والتنقل وهذه الوضعية التي فرضها الحجر على حياتهم المادية والمعنوية هي التي جعلت منهم أشخاصا لا يعنيهم كثيرا هذا الاجراء وجعلهم غير مبالين بخطورة الوباء أمام حاجتهم لتأمين عيشهم وتوفير الموارد المادية لحياتهم وجعلهم غير مقيدين بالإجراءات المتخذة وهي طبقة اجتماعية لا يمكن أن نجزم بعدم امتلاكها للوعي المطلوب في مثل هذه الظروف طالما وأن الذي يحركها ويشكل سلوكها هي الحاجة والضرورة وهذا فعلا ما أظهرته دراسة أجريت مؤخرا على سكان ضاحية " سين سان دوني " الباريسية وتناولت البحث في أسباب ارتفاع حالات الإصابة بفيروس كورونا وأسباب حصول عدد كبير من الوفيات في صفوف أهالي هذه المنطقة حيث أثبت الدراسة بأن الأسباب تعود إلى كون هذه المحافظة هي من أفقر المناطق في فرنسا وأن الحالة الصحية ضعيفة جدا وهي من المناطق الأقل استفادة من التغطية الصحية والاجتماعية كما أوضحت الدراسة بأن حالة الفقر والوضع الاجتماعي المتعب والوضع الصحي الهش واشتغال العدد الكبير من السكان في أعمال ومهن يدوية بسيطة لا يمكن ممارستها عن بعد وتتطلب تنقلهم خارج البيت وكونهم غير مستعدين للتوقف عن العمل بسبب الحاجة المادية للحياة ولتأمين عيش الأسرة كل ذلك جعل من إجراء الحجر الصحي هو من آخر أولوياتهم واهتماماتهم وبالتالي ظهر في هذه المقاطعة عدم إكتراث بما يقوله السياسيون والأطباء حول مخاطر فيروس كورونا وضرورة الالتزام بالحجر الصحي الشامل . وهذا يعني أن عدم التزام الناس بالحجر الصحي وعدم الاكتراث لصيحات الفزع التي يطلقها السياسيون من تداعيات عدم الالتزام بهذا الإجراء ومظاهر التمرد التي بدأت تظهر عند البعض في عدم التقيد بالإجراءات الصحية المتخذة له تفسير آخر غير غياب الوعي المطلوب ذلك أن الذي يحرك الأفراد الذين لم يلتزموا بالحجر الصحي في الكثير من الأحياء والمناطق الشعبية هي الحاجة والضرورة للحياة فهؤلاء تحركهم الضرورة للعمل لكسب المال الذي يؤمن لهم العيش والذي من غيره لا يمكن لهم أن يضمنوا حياتهم وهنا نحتاج إلى الاستعانة بالعالم " إبراهام ماسلو " وهرمه عن الاحتياجات الاجتماعية الخمس التي فسر بها طبيعة الأشخاص وأسباب اختلاف السلوك من فرد إلى آخر والعوامل المؤثرة في الشخصية حيث جعل في أعلى هرم نظريته الاجتماعية والنفسية الاحتياجات الانسانية الأساسية التي من دونها لا يمكن أن تتحقق الحياة للناس والتي تجعل الفرد يقاتل من أجل الحصول عليها وهي الماء والهواء والطعام والمأوى ومن دون تلبية هذه الحاجيات يقول ماسلو لا يمكن لأي فرد أن يمر أو ينتقل إلى مستوى متقدم من الاحتياجات أو أن يطلب منه الانتقال إلى حاجيات أخرى كالحاجة إلى الانتماء الاجتماعي أو الحاجة إلى الأمن وطالما لم نوفر الغذاء للناس وطالما يحتاج الافراد إلى العمل لتأمين الأكل والشراب والسكن وطالما لم نعالج مشاكل الفقر والهشاشة والتهميش فإنه لا يمكن أن نطلب من الناس الالتزام بحاجيات أخرى أقل مرتبة من مرتبة الحاجيات الحياتية الأساسية. فالمسؤولية والالتزام والانضباط بالنسبة لهؤلاء الناس تحددهما الحاجة والضرورة وليس الوعي الذهني والثقافة و المواطنة ..