على المثقف العرأن يحصّن مجتمعه ويصنع وعيه بعيدًا عن التفسيرات والتأويلات المثولوجية أو الشعبوية التي لا تمت للعلم بصلة. قد لا أجانب الصواب إذا قلت أنّ فعل المثقفي العربي القديم كان منتميًا انتماءً عضويًا إلى حركة التاريخ الكبرى المتمثلة في إنتاج الحضارة والعلم، ابتداءً من المشروع النبوي المحمدي في مكة والمدينة، مرورًا بمثقفي بغداد، ودمشق، والقاهر، والقيراون، ومراكش، وفاس، وقرطبة، وبجاية، وتلمسان وتيهرت، الذين ساهموا في حركة صعود تاريخ حضاري عالمي، ولا نبالغ إن قلنا أنهم تحكموا في حركة التاريخ الكوني باعتبارهم مثلوا حقبةً فاصلة بين الثقافة الإغريقية والثقافة الأوروبية، وعكس هذا المثقف المنتمي لشروط خاصة بوأته هذه المكانة الحضارية المرموقة، نجد المثقف العربي المعاصر ينتمي لشروط حضارية مغايرة، إذْ خرج إلى الوجود بعد دورة الموت الحضاري، وبعد ظلمة ظلماء من التراجع والانحطاط، وجد نفسه مستندًا على جدار متآكل، وقواعد مهترئة جعلت خياراته محدودة جدًا، إما أن يمانع ويعاند، وإما أن يعود إلى الماضي باحثًا عن نقطة ارتكاز يقف عليها ويتخذها منطلقًا في تبرير وجوده الحضاري، وإما أن يداري ويجاري فيصغي ويتعلم ويقلد، ويبشر بكينونة تاريخية وحضارية لم يعد يملك مصيرها. واليوم ذهب العقل الجمعي العربي إلى أنّ هذا الفيروس عقابٌ إلهي للصين بسبب اضطهادهم للإيغور، وبعد انتشاره في إيران فسروه بأنّه عقاب إلهي بسبب أعمال الشيعة في العراق وسوريا، ولكن حال الإعلان عن حالات في الدول العربية، قالوا:هو ابتلاء من الله! لتنتشر بذلك الأدعية بالشفاء من المسلمين ولهم في أغلبها، والتي تشي عن التشمُّت في الآخر المُختلف دينيًّا،إلى جانب التشفّي في التقدّم العلمي والتقني وبيان عجزه أمام المشيئة الإلهية. بينما ذهب آخرون إلى أنّها حرب الطبيعة على الإنسان الذي لم يحترم نظامها ومُقوِّمات استمرارها؛ وفريق يُؤكد أنّها حربٌ بيولوجية، حرب البشر ضدّ البشر (وفقًا لنظرية المُؤامرة)، وفي حين انتشار التفسيرات الخُرافية حول أسباب انتشاره، كالعلاقات الجنسية، وارتفاع نسبة الرطوبة والتلوث؛ ذهبت فئة أخرى إلى أنّ الفيروس سياسة صينية خطيرة لرفد اقتصادها ومنعه من الانهيار. وأمام البؤس العلمي والحضاري والأخلاقي الذي نُعانيه، فالمُرجّح أنّ الضربات التي تزيد الأقوياء قوة ستزيدنا نحن الضعفاء، المرضى بالشماتة، ضعفًا وتدهورًا، حتى لربّما قد يُفنينا جهلنا وحقدنا قبل أن يقضي علينا "كورونا" أو أيُّ وباء آخر، وحينها يصدق علينا قول الحق سبحانه: "في قلوبهم مرضٌ فزادهم الله مرضًا..." (البقرة: 10). ما أريد أن أقول؟ أردت القول: في خضم أزمة وباء كورنا العالمي، يجب على المثقف العربي المعاصر أن يدرك وبعمق أنّ يقينيات المعرفة الإنسانية القديمة قد تصدعت، وخاصة تلك المرتبطة بالطبيعة والإنسان والمجتمع، ونبتت في شروخها أسئلة مؤرقة ومحرجة مع سيطرت العلم والتقنية والمعارف الحديثة والحروب البيولوجية، أو الإرهاب البيولوجي الذي صدّر وباء كورنا للإنسان عن طريق التعديل الوراثي للأحياء،والاستنساخ البشري الحيواني، والزراعة النسيجية وغيرها من علوم البيوبوجيا القاتلة التي أصبحت تُجند لتحقيق أهداف ومآرب سياسية واقتصادية وتوسعيَّة، متجاوزةً الغزو العسكري التقليدي، وعليه يجب على المثقف العربي المعاصر أن يعيّ كل هذه المضمرات بتفكيكها وتبسيطها، حتى يحصن مجتمعه ويصنع وعيه بعيدًا عن التفسيرات والتأويلات المثولوجية أو الشعبوية التي لا تمت للعلم بصلة. ختاما،لا أقلّل من قيمة المبدع، لكن ثقافة الإبداع ليست هي نفسها ثقافة الفكر،والدور المنوط بالمثقف،وتعريف المثقف العضوي كما اختطه “غرامشي” لم يتطرق للكتابة والفن والإبداع،ولم يتعارض مع مدرسة “الفن لأجل الفن” التي جاءت لاحقاً وبتردد،ثم تقدمت بخطوات أجرأ بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وتراجع اليسار في العالم. ثمة في الحياة وظيفة وثمة دور،والمثقف المفكر هو صاحب دور لكنَّه صاحب مهمة أيضا،أو وظيفة،هي وضع المجتمع على سكة الحديد التي يجب أن يكون عليها،يضع النظرية ثم يمضي،ولا يحاسب لاحقاً على فشل تطبيقها،ذلك أن ثمة ما اتفق على تسميته ب “الظروف الموضوعية” المطلوبة لانضاج أية نظرية، فوضع “السيف في موضع الندى مُضرٌّ كوضع الندى في موضع السيف” كما قال الشاعر العربي القديم. وأخيرا على المثقف العربي أن يتمترس اليوم مع مجتمعه خلف خط الدفاع الأول عن العلم والمعرفة والطب..فالقلم سلاح يطمئن النفوس المحبطة،ويدفع في اتجاه تقدّم العلوم والمعارف..بمنآى عن الخرافات والأساطير..