الغيبة وهي كما يعرفها العلماء (ذكر الغائب عن مجالس الحديث بما فيه من عيوب يسترها عن الناس ويسوؤه ذكرها) مرض اخلاقي قديم قدم الانسان عافانا وعافاكم الله ومنتشر بين شعوب العالم كلها ومن بينها طبعا الأمة الاسلامية رغم ان المسلمين يعلمون علم اليقين ويقرؤون في كتاب الله المبين النهي والتحذير والتنبيه من الوقوع في هذه الآفة الشنيعة الزرقاء التي شبهها الله تعالى خالق الأرض والسماء بابشع تشبيه كاف لردع عباده المؤمنين الصادقين العقلاء وذلك في قوله جل وعلا(يا ايها الذين امنوا اجتنبوا كثيرا من الظن ان بعض الظن اثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم اخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم)(الحجرات 12) وقد احسن الامام ابن قيم الجوزية رحمه الله توضيح وتفسير هذا التشبيه او هذا المثل بقول نراه ونعتبره من ارفع واحسن ما قاله فيه كل ذي راي وكل ذي لب وكل ذي عقل اذ قال ويا لروعة ودقة وجمال ما قال (وهذا من احسن القياس التمثيلي فانه شبه تمزيق عرض الأخ بتمزيق لحمه ولما كان المغتاب يمزق عرض اخيه في غيبته كان بمنزلة من يقطع لحمه في حال غيبة روحه عنه بالموت وما كان المغتاب عاجزا عن دفعه عن نفسه بكونه غائبا عن ذمه كان بمنزلة الميت الذي يقطع لحمه ولا يستطيع ان يدفع عن نفسه ولما كان مقتضى الأخوة التراحم والتواصل والتناصر فعلق عليها المغتاب ضد مقتضاها من الذم والعيب والطعن كان ذلك نظير تقطيع لحم اخيه والأخوة تقتضي حفظه وصيانته والذب عنه ولما كان المغتاب متمتعا بعرض اخيه متفكها بغيبته وذمه متحليا بذلك شبه باكل لحم اخيه بعد تقطيعه ولما كان المغتاب محبا لذلك معجبا به شبه بمن يحب اكل لحم اخيه ميتا ومحبته لذلك قدر زائد على مجرد اكله كما ان اكله قدر زائد على تمزيقه فتامل هذا التشبيه وهذا التمثيل وحسن موقعه ومطابقة المعقول فيه المحسوس وتامل اخباره عنهم بكراهة اكل لحم الأخ ميتا ووصفهم بذلك في آخر الآية والانكار عليهم في اولها ان يحب احدهم ذلك فكما ان هذا مكروه في طباعهم فكيف يحبون ما هو مثله ونظيره؟؟ فاحتج عليهم لما كرهوه على ما احبوه وشبه لهم ما يحبونه بما هو اكره شيء اليهم وهم اشد شيء نفرة عنه فلهذا يوجب العقل والفطرة والحكمة ان يكونوا اشد شيء نفرة عما هو نظيره ومشبهه وبالله التوفيق) (انتهى كلام الامام ابن قيم الجوزية) اما لمن اراد مزيد الاقتناع ومزيد التحقق اومزيد التحقيق من ان الغيبة في دين وأخلاق الاسلام تعتبر من افظع السيئات ومن اكبر الذنوب ومن افدح المعاصي التي يجب على المسلم والمؤمن حقيقة بالله تعالى وبحسابه وعقابه ان يتركها وان يجتنبها وان ينهى عنها في كل مجلس وفي كل حديث وفي كل بيت وفي كل سبيل وفي كل طريق فاننا نذكره او نذكر له هذا الحديث النبوي الشريف الذي نراه قد بلغ القمة والغاية والمنتهى لدى العقلاء في التحذير والتنبيه والتخويف فعن انس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم( لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم ولحومهم وفي رواية اخرى وصدورهم فقلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء الذين ياكلون لحوم الناس ويقعون في اعراضهم (اخرجه ابو داود) اما عن ميمون بن يسار وهو من الصالحين والأتقياء والأخيار فقد قال في هذا الإطار ما يزيد في تقبيح هذه المعصية وهذا المرض النفسي تقبيحا لا يغفل عن فهم حقيقته والاعتبار به أولو العقول والنهى والأبصار(بينما انا نائم اذ بجيفة وقائل يقول كل يا عبد الله قلت وما آكل؟ قال كل بما اغتبت فلانا قلت والله ما ذكرت فيه خيرا ولا شرا قال ولكنك استمعت ورضيت فكان ميمون لا يغتاب احدا ولا يدع احدا يغتاب احدا عنده) فهل سيتعظ وهل سينتفع المغتابون الغافلون في هذه الديار بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم وبحديث ميمون بن يسار ؟ وهل سيقلعون عنها وخاصة في هذا الشهر الكريم شهر الصيام وشهر التوبة وشهر الذكر وشهر القران وشهر الاستغفار؟ ام سيواصلون اقتراف هذه المعصية الفظيعة الشنيعة دون اكتراث بعواقبها ودون تبصر ببشاعتها ودون تذكر لكتاب الله ودون تدبر ودون اعتبار؟ ولا حول ولا قوة الا بالله العزيز الحكيم الواحد الغفار.