للفساد في تونس تاريخ طويل البعض يرجعه إلى عهد البايات وحكم العثمانيين الذين جلبوا معهم إلى بلادنا الرشوة والمحسوبية والبعض الآخر يعود به إلى ما قبل قدوم الأتراك لتحرير البلاد من قبضة الإسبان إلى أزمان موغلة في القدم تعود إلى الإحتلال الروماني الحضارة التي قامت على الفساد السياسي والفساد المالي… وآخرون يرجعون انتشار الفساد في تونس بهذه الصورة التي هو عليها إلى طبيعة التونسي الذي أصبحت له شخصية متصالحة مع كل مظاهر الفساد نتيجة الجينات التي يتوفر عليها والتي نهلت من ثقافات وأعراق وأجناس متعددة نحتت الشعب التونسي الذي أصبح لا يجد حرجا في العيش والتعايش مع الاخلالات والانحرافات وكل صور الفساد وربما تحتاج ظاهرة انتشار الفساد في تونس إلى دراسة اجتماعية وتاريخية لمعرفة لماذا لدينا نسبا عالية جدا من الفساد؟ ولماذا يعم الفساد في هذا الشعب الذي تعداد سكانه في حدود 10 ملايين نسمة ويعرف مظاهر محيرة من الفساد حتى بات كل مجال وكل قطاع إلا ونخره الفساد حتى بات الوضع الطبيعي هو أن يتصرف المرء وفق عقلية وثقافة وسلوك يكرس الفساد والإستثناء هو غير ذلك. وحتى ندرك حجم الفساد في تونس وحتى نتبين الحالة التي وصلنا إليها في علاقة بطغيان الفساد في كل المجالات والميادين تجاوز الأفراد والمجتمع ليصل إلى الدولة بكل مؤسساتها وهياكلها وقطاعاتها علينا أن نتوقف قليلا عند التقرير النهائي الذي أعدته هيئة الرقابة العامة بوزارة أملاك الدولة والشؤون العقارية حول نشاط وتصرف " الوكالة الوطنية للتبغ والوقيد " وهي مؤسسة عمومية من أهم مؤسسات الدولة وهو تقرير من ضمن عدد كبير من تقارير الرقابة التي أجريت على هذه المؤسسة منذ سنة 2011 تاريخ الثورة غير أنها لم تكن تنشر من قبل ولم تكن تجد من يكشف عن محتواها الخطير. ومما جاء في هذا التقرير الرقابي الأخير والذي ينشر لأول مرة أن ديوان الوطني للتبغ والوقيد يمتلك الإحتكار الحصري لإنتاج وتوزيع السجائر في تونس وليس له منافس في هذا القطاع وهي خاصية من المفروض أن تجعل منه قطاعا مربحا ويحقق مداخيل مالية معتبرة إلا أن الواقع عكس ذلك حيث يصنف الديوان من ضمن المؤسسات العمومية التي تعرف عجزا في موازناتها وتراجعا في أرباحها وخسارة في مداخيلها ما جعل منها مؤسسة مفلسة وعبئا على الدولة التي تحتاج كل سنة إلى انقاذها وتخصيص جزء من الميزانية لفائدتها حتى تتمكن من مواصلة نشاطها حيث قدرت خسائر الديوان بحوالي 136 مليون دينار ما بين سنة 2010 و 2014 وربما زاد هذا العجز في السنوات الأخيرة وقد أرجع التقرير هذا الوضع الذي عليه الديوان إلى وجود فساد كبير داخل هذه الشركة متعدد الأبعاد والأوجه من محسوبية موغلة وإهدار للمال العام مفرط وفساد في التصرف وإدارة المؤسسة بلا حدود وإخلالات متعددة تتعلق بغياب الشفافية في المعاملات وتجاوز في التعيينات والتوظيف وتلاعب في إنجاز المشاريع الاستثمارية لتعصير ورشات الإنتاج للرفع من الطاقة الانتاجية بما يسمح من مجابهة البضاعة الوافدة من الخارج وتعديل السوق في علاقة بالسجائر الموردة هذا فضلا عن فساد آخر تعلق بالامتيازات الممنوحة إلى عدد من الموظفين من أعوان الوكالة القارين أو الوقتيين وحتى الأعوان المتقاعدين وأعضاء مجلس الإدارة والمديرين العامين ومراقبي الدولة وبعض إطارات الإدارة العامة للمحاسبة العمومية والاستخلاص المكلفين بتفقد المراكز المحاسبية وقباض المالية المكلفين بالتصرف في منتجات الاختصاص وأمناء المال الجهويين وبعض الأطباء المتعاقدين كل هؤلاء الأشخاص في هذه القائمة الطويلة يحصلون شهريا على حصة من علب السجائر التي ينتجها الديوان تحت عنوان "منحة التذوق" وهي امتياز يقول عنه التقرير الرقابي أنه دون سند قانوني ولا إجراء ترتيبي وإنما هي أموال الدولة المهدورة و المقدرة حسب التقرير ب 10 مليون علبة تم توزيعها على المنتفعين بها بين سنتي 2013 و 2015 فقط، وتقدر قيمتها بما يناهز 22 مليون دينار كان بالإمكان أن تعود إلى الدولة وتخفف من العجز الذي يعرفه الديوان. هذا جزء وجانب يسير مما جاء في التقرير الرقابي الذي أعدته وزارة أملاك الدولة والشؤون العقارية حول نشاط الديوان الوطني للتبغ والوقيد والذي كشف عن وضع غير عادي لهذه المؤسسة العمومية وعن فساد موغل ومتواصل وغير معقول وغير مقبول، وقد تجاوز وتعدى كل الحدود وكل صور الفساد الأخرى التي نعرفها فما جاء في هذا التقرير هو صادم ومذهل قد كشف عن فساد متعدد الأبعاد والمجالات والأوجه هو الذي جعل هذه الشركة الوطنية تعرف خسائر متتالية في أرباحها ما جعلها عبئا على ميزانية الدولة التي تضطر كل مرة إلى التدخل لإنقاذها وهو الذي جعلها مصنفة من ضمن المؤسسات العمومية التي تعرف صعوبات مالية حادة وصلت إلى حدود 131 مليون دينار في سنة 2014 فقط والحال أن وضعها الطبيعي أن تكون مؤسسة رابحة بما أنها تحتكر إنتاج وتوزيع السجائر بمفردها وبما أنها تتمتع بهامش من الربح مرتفع حيث اتضح أن كلفة العلبة من السجائر عند الانتاج تتراوح بين 420 و 450 مليم في حين أنها تباع للعموم ما بين 3200 و 3500 مليم غير أن هامش الربح هذا لا يعود إلى خزينة المؤسسة ليجعل منها دوما مؤسسة مفلسة وغير قادرة على تمويل نفسها والعمل في إطار مريح. إن المشكل في كل هذا الوضع الرديء الذي يعرفه الديوان الوطني للتبغ والوقيد هو أنه إلى جانب كل هذا الفساد في التسيير والمحسوبية والرشاوى في إعطاء الرخص لبيع السجائر وكل الفساد في التسيير والإدارة وكل الفساد في الامتيازات والعلاوات والمنح المجانية التي طالت حتى الأعوان المتقاعدين والوقتيين فإن هذه الشركة رغم أنها تتحكم في القطاع وتحتكر انتاج وتوزيع السجائر وتمنح الكثير من الاشخاص أموالا دون مبرر قانوني تحت عنوان " منحة التذوق " إلا أنها تعرف صعوبات مالية وتصنف ضمن قائمة الشركات العمومية المفلسة ومع ذلك فإنها تبيع السموم للشعب وتبيع الموت للكثير من المواطنين ومع ذلك تجد الدولة تسندها وتقف إلى جانبها وتضخ الأموال لإنقاذها في إشارة إلى وجود جهات نافذة ولوبيات متحكمة تعمل على إبقاء الوضع على ما هو عليه وإبقاء قطاع السجائر على هذا الحال من الفساد العميق.