كان الهجاء عند العرب نوعا من الكاريكاتور باعتبار أنه رسْمٌ بالكلمات وتلاعب بمخيال المتلقي. وهنالك لوحات فسيفسائية محفوظة في متحف مدينة سوسة تعود إلى الحقبة الرومانية تؤكد لنا أن الكاريكاتور ليس غريبا عن البلاد التونسية اذ انه بدا لنا منتشرا بها منذ زمن بعيد لكن في شكل اقنعة مسرحية يرتديها الممثلون للتعبير عن مواقف وأداء رسائل اجتماعية وسياسية وثقافية امام الجمهور. وهذا الأمر نفسه نعاينه في رواية "الجخش الذهبي" لافولار الإفريقي الذي عاش في قرطاج قبل أن ينتقل بعد توسع شهرته إلى روما. وهي الرواية التي ترجمها وقدم لها صديقنا الموسوعي وأستاذنا الدكتور جلول عزونة. وخلال فترة الاستعمار الفرنسي التي كانت تراوح من مرحلة الى أخرى بحسب سياسة كل مقيم عام فرنسي بتونس (وهو الحاكم من وراء ستار الباي في تونس) بين قمع حرية التعبير والصحافة وبين التسامح وإطلاق العنان للحريات، بين هذا وذاك ازدهر فن الكاريكاتور في الجرائد الهزلية التونسية ثم انقطع بعد الاستقلال عهد هذا الفن إلى أن عاد سنوات قليلة قبل اندلاع ثورة 2011 من خلال سلسلة تلفزية بعنوان "القلابس" وكذلك من خلال إسهامات الفنانين المشاهير في هذا اللون الإبداعي بعدد من الجرائد الأسبوعية واليومية، لكن دون اقتحامهم لعالم السياسة الذي كان خطأ احمر ما تخطاه أحد إلا تأذى . ومن جهتي حاولت التأسيس لمهرجان خاص بالكاريكاتور بمدينة سبيطلة من ولاية القصرين وذلك بدعم من الأستاذة نجاح الامام شحدورة مديرة دار الثقافة بسبيطلة وباشراف واردة قوية من الأستاذة رجاء مديرة دار الشباب بنفس المدينة كان ذلك سنة 2003. ثم نقلت هذه التجربة في نفس السنة إلى مدينة حمام سوسة ابن نظمنا بإشراف وتشجيع وحماسة فياضة من السيدة راضية التواتي مديرة دار الثقافة علي الدوعاجي بحمام سوسة وبمشاركة معهودة فاعلة من أخي المحبوب الشاعر والخطاط والإعلامي جلال باباي اين اسسنا الدورة الأولى للملتقى الوطني لفن الكاريكاتور أيام 4 و5 و6 نوفمبر 2003. ما يجب الإشارة إليه في هذا السياق أن الفنان الكبير علي عبيد كان يمثل مدرسة متميزة في الكاريكاتور الذي محوره الشخصيات الثقافية التونسية والتي كان الملحق الثقافي لجريدة الحرية فضاؤها الرحب طوال عقود. وإذا كان فن الكاريكاتور موجها إلى الكبار أساسا فإن فن الرسوم المتحركة الموجه للأطفال لم يزدهر هو الآخر في تونس كما ينبغي له أن يزدهر لدوره التربوي والتعليمي والثقافي الهادف والبالغ الأهمية في مواجهة الصور المتحركة الوافدة من الغرب وبثقافتها الهدامة في كثير منها لأجيالنا الناشءة. ولم يكن هذا الفن على جودته خاليا من الجانب الكاريكاتوري الساخر المضحك للمشاهدين الأطفال. وبفضل جهود صديقنا المهذب ابي السعود المسعدي رحمه الله وهو ابن شقيق الأديب الكبير والوزير المشهور محمود المسعدي تركز اول وأكبر مهرجان للصور المتحركة في تونس وتحديدا بمدينة تازركة من ولاية نابل كان يحضرها مشاهير رسامي كتب الرسوم المتحركة للأطفال في العالم. وكان أبو السعود يكرم ضيافتنا بهذه المدينة البحرية الرائعة فنجمع بين الابداع وبين معايشة أجواء الترفيه والثقافة في هذه الربوع التي اشتهر أهلها بشغفهم العلمي والثقافي (رسم وشعر ورواية وسينما...)، إلى جانب زيارة الدار التي ولد فيها محمود المسعدي وعاش، وكانت ملاصقة لجامع المدينة وكان والد المسعدي وهو من خريجي جامع الزيتونة المعمور إماما بهذا الجامع المحلي فكان يدخل اليه كلما كان وقت الصلاة من ممر علوي أشبه بجسر علوي ضيق يربط سطح المنزل بالجامع من نهج يمر به سكان الحي. وللأسف لم يتحول منزل المسعدي القديم البناء إلى متحف خاص به وإنما أحيل حسبما عاينته منذ عشرين سنة مضت إلى عائلة معوزة تسكنه على وجه الفضل. وظل بسيطا كما هو منذ قرن من الزمن. وقد نالني منذ سنة 1999 شرف تصدّر صفحات رسّامي الكاريكاتور منذ رسم الصديق قيس العشي –شفاه الله- لشخصي المتواضع، وهو الرسم الكاريكاتور ي الذي صار مرافقا طوال ثلاث سنوات للصفحة الثقافية التي كنت أشرف عليها بجريدة اضواء برئاسة الإعلامي القدير الصديق عبد الرزاق الشابي وبزمالة اقلام لامعة في عالم الصحافة من قبيل نور الدين المباركي وسليم بوخذير ومحمد صالح الربعاوي وصابر المكشر ورضا العوادي وشيراز العياري ومنى الميساوي ولمياء الصيد... وهي صفحة مشاكسات كنت أؤثثها بأركان تدل عناوينها على طبيعتها من قبيل: عالمكشوف وعلى السفود ودون أقنعة وبكل شجاعة... فكانت صيدا للخاطر وتصيّدا للحقيقة واصطيادا للفكر النقدي في مياه الجمود والركون والمجاملات السائدة. ويبقى الكاريكاتور سلطة فوق سلطة الكلمة والصورة منفصلين لأنه اداة هدم فورية لكل ما تسلط عليه الأضواء الكاشفة لعيوبه المخفية، ولذا ليس من الغريب أن تعاديه السلط الحاكمة لا سيما أنه يخدش الهيبة ويبرز العيوب ويحرض الناس بأقل التكاليف وفي أسرع وقت ضد حكامهم. وفيما يلي رسوم كاريكاتورية لصاحب هذا المقال بريشة فرسان هذا الفن من دول مغاربية وأوروبية تعود الى نحو عقدين من الزمن.